الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2485 ص: فلما تكافأت هذه التأويلات في فعل عثمان وعائشة - رضي الله عنها - لزمنا أن ننظر حكم قصر الصلاة ما يوجبه فكان الأصل في ذلك أنا رأينا الرجل إذا كان مقيما في أهله فحكمه في الصلاة حكم الإقامة، وسواء كانت إقامته في طاعة أو معصية لا يتغير لشيء من ذلك حكمه، فكان حكم إتمام الصلاة يجب عليه بالإقامة خاصة لا بطاعة ولا بمعصية، ثم إذا سافر فخرج بذلك من حكم الإقامة فقد جرى في هذا من حكم الاختلاف ما قد ذكرنا.

                                                فقال قوم: لا يجب له حكم التقصير إلا أن يكون ذلك السفر سفر طاعة.

                                                وقال آخرون: يجب له حكم التقصير في الوجهين جميعا، فلما كان حكم الإتمام يجب له في الإقامة بالإقامة خاصة لا بطاعة ولا غيرها، كان كذلك يجيء في النظر أن يكون حكم التقصير يجب له في السفر خاصة لا بطاعة ولا بغيرها ; قياسا على ما بينا وشرحنا، ولما ثبت أن التقصير إنما يجب له بحكم السفر خاصة لا بغيره، ثبت أنه يقصر ما كان مسافرا في الأمصار وغيرها ; لأن العلة التي لها تقصر هي السفر الذي لم يخرج منه بدخوله الأمصار، وجميع ما بينا في هذا الباب وصححنا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي لما تساوت التأويلات المذكورة في إتمام عثمان وعائشة الصلاة في السفر، ولم يقم دليل قاطع على ترجيح أحد التأويلات على الآخر ; لزمنا أن ننظر حتى نعلم السبب الموجب لقصر الصلاة في السفر، ما هو؟

                                                [ ص: 410 ] فنظرنا في ذلك، فرأينا حكم المقيم في أهله إتمام الصلاة بسبب الإقامة خاصة لا بسبب كونه مطيعا أو عاصيا، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون حكمه إذا خرج إلى السفر قصر صلاته بسبب السفر خاصة لا بسبب كونه مطيعا أو عاصيا.

                                                قوله: "فقد جرى في هذا من حكم الاختلاف" أي: فقد جرى فيما إذا سافر المقيم وخرج بسبب سفره عن حكم الإقامة من حكم الاختلاف ما ذكرنا، ثم بين ذلك بالفاء التفسيرية بقوله: "فقال قوم: لا يجب له حكم التقصير إلا أن يكون ذلك السفر سفر طاعة " وأراد بهم: الشافعي ومالكا وأحمد والطبري وأصحابهم ; فإنهم ذهبوا إلى أن السفر المبيح للقصر هو سفر الطاعة كالسفر الواجب والمندوب، والمباح كسفر التجارة، ولا يرخص له في سفر المعصية كالإباق وقطع الطريق والتجارة في الخمر والمحرمات.

                                                وفي "المغني": وفي سفر التنزه والتفرج روايتان: إحداهما تبيح الترخص، والثانية لا يترخص فيه.

                                                قال أحمد : إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان متنزها وليس في طلب حديث ولا حج ولا عمرة ولا تجارة فإنه لا يقصر الصلاة، فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل : لا يباح له الترخص ; لأنه نهي عن السفر إليها. والصحيح إباحته وجواز القصر فيه.

                                                إذا كان السفر مباحا فغير نيته إلى المعصية انقطع الترخص لزوال سببه، ولو سافر لمعصية فغير نيته إلى مباح صار سفره مباحا وأبيح له ما يباح في السفر المباح، وتعتبر مسافة السفر من حين غير النية. انتهى.

                                                وقال عياض: وكره مالك التقصير للمتصيد للهو، وحكي عنه المنع فيه في سفر النزهة.

                                                [ ص: 411 ] قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون ; وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا ; فإنهم ذهبوا إلى أن السفر هو المبيح لقصر الصلاة والإفطار مطلقا سواء كان سفر طاعة أو سفر معصية وهو معنى قوله: "في الوجهين جميعا" لعموم الآية، وهو رواية عن مالك ، وإليه ذهب أكثر الظاهرية.

                                                وقال ابن حزم في "المحلى": وكون الصلوات المذكورة في السفر ركعتين فرض، سواء كان سفر طاعة أو معصية أو لا طاعة ولا معصية أمنا كان أو خوفا، فمن أتمها أربعا عامدا فإن كان عالما بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته، وإن كان ساهيا سجد للسهو بعد السلام فقط.

                                                وقال ابن حزم أيضا: واحتج من خص بعض الأسفار بذلك بأن سفر المعصية محرم فلا حكم له.

                                                فقلنا: أما محرم فنعم هو محرم، ولكنه سفر فله حكم السفر، وأنتم تقولون: إنه محرم، ثم تجعلون فيه التيمم عند عدم الماء وتجيزون الصلاة فيه وترونها فرضا، فأي فرق بين ما أجزتم من الصلاة والتيمم لها وبين ما منعتم من تأديتها ركعتين كما فرضها الله في السفر، ولا سبيل إلى فرق، وكذلك الزنا محرم وفيه من الغسل كالذي في الحلال ; لأنه إجناب ومجاوزة ختان لختان.

                                                قوله: "ولما ثبت أن التقصير. . . " إلى آخره، بيان للوعد الذي ذكره فيما مضى بقوله: "وسنبين الحجة في هذا الباب في آخره إن شاء الله تعالى".

                                                قوله: "وجميع ما بينا" كلام إضافي مبتدأ، وخبره قوله: "قول أبي حنيفة رحمه الله".

                                                [ ص: 412 ]



                                                الخدمات العلمية