الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1655 [ ص: 68 ] ( 7 ) باب ما جاء في الطاعون

                                                                                                                        1656 - مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام قال ابن عباس ، فقال عمر بن الخطاب : ادع لي [ ص: 69 ] المهاجرين الأولين ، فدعاهم فاستشارهم ، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ، فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه ، وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء ، فقال عمر : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم ، فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش ، من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم اثنان ، فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ، فنادى عمر في الناس : إني مصبح على ظهر ، فأصبحوا عليه ، فقال أبو عبيدة ، أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : أو غيرك قالها يا أبا عبيدة ؟ نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان ، إحداهما مخصبة والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله : ؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجته ، فقال : إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه : وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " قال فحمد الله عمر ، ثم انصرف .

                                                                                                                        [ ص: 70 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 70 ] 38725 - قال أبو عمر : قد ذكرنا في " التمهيد " ما يستدل به من ألفاظ هذا الحديث ، وما يمكن استنباطه منها ، ونذكر هاهنا ما في ظاهره الذي سبق وذكر .

                                                                                                                        38726 - وأما اختلاف المهاجرين والأنصار في القدوم على الوباء فلكل واحد منهم معنى صحيح في أصول السنن المجتمع عليها من الكتاب والسنة ، وملاك ذلك كله الإيمان بالقدر ، وأن ما أصاب المرء لم يكن ليخطئه ، مع إباحة الأخذ بالحذر والحزم والفرار عن المهلكة الظاهرة .

                                                                                                                        38727 - وقد أحكمت السنة ، والحمد لله كثيرا ما قطع وجوه الاختلاف فلا يجوز لأحد أن يقدم على موضع طاعون لم يكن ساكنا فيه ، ولا يجوز له الفرار عنه إذا كان قد نزل في وطنه وموضع سكناه .

                                                                                                                        38728 - وقد ذكرنا في " التمهيد " خبرا عن الزهري قال : أصاب الناس طاعون بالجابية ، فقال عمرو بن العاص تفرقوا عنه ، فإنما هو بمنزلة نار ، فقام معاذ بن جبل ، فقال : لقد كنت فينا وأنت أضل من حمار أهلك سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " هو رحمة لهذه الأمة ، اللهم فاذكر معاذا في من تذكره في هذه الرحمة .

                                                                                                                        [ ص: 71 ] 38729 - قال أبو عمر : مات معاذ في طاعون عمواس بالشام سنة ثماني عشرة .

                                                                                                                        38730 - وروى شعبة ، عن يزيد بن جبير قال : سمعت شرحبيل بن حسنة يحدث أن عمرو بن العاص قال : وقد وقع الطاعون بالشام : إنه رجس ، فتفرقوا عنه . فقال شرحبيل : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنها رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم ، فلا تفرقوا عنه " .

                                                                                                                        38731 - قال أبو عمر : أظن قوله : " ودعوة نبيكم " قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون " . وقد ذكرنا هذا الخبر من حديث عائشة في كتاب الجنائز ، عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : " والمطعون شهيد " .

                                                                                                                        38732 - وقالت عائشة : يا رسول الله ، الطعن قد عرفنا فما الطاعون ؟ قال : " غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط " .

                                                                                                                        38733 - قال أبو عمر : وقد تخرج في الأيدي والأصابع ، وحيث شاء الله من البدن .

                                                                                                                        38734 - وروينا أن زيادا كتب إلى معاوية : " إني قد ضبطت العراق بيميني ، وشمالي فارغة " ، فأخبر بذلك ابن عمر ، فقال : مروا العجائز يدعون الله عليه ، [ ص: 72 ] ففعلن ، فخرج بأصبعه طاعون ، فمات منه .

                                                                                                                        38735 - وروي من حديث جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " الفار من الطاعون ، كالفار من الزحف ، والصابر فيه كالصابر في الزحف " .

                                                                                                                        38736 - وروينا عن ابن مسعود ، أنه قال : الطاعون فتنة على المقيم وعلى الفار أما الفار فيقول : فررت فنجوت . وأما المقيم فيقول : أقمت فمت وإنما فر من لم يجئ أجله ، وقام فمات من جاء أجله .

                                                                                                                        38737 - وروينا عن عمر من وجوه قد ذكرناها في " التمهيد " ، أنه ندم على انصرافه عن الطاعون لأنه قد كان نزل بالشام ودخلها يومئذ .

                                                                                                                        38738 - وروى هشام بن سعد ، عن عروة بن رويم ، عن قاسم ، عن عبد الله بن عمرو قال : جئت عمر حين قدم من الشام ، فسمعته يقول : اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ ، يعني حين رجع من أجل الوباء .

                                                                                                                        38739 - قال عروة بن رويم : وبلغنا أنه كتب إلى عامله بالشام : إذا سمعت بالطاعون قد وقع عندكم ، فاكتب إلي أخرج إليه .

                                                                                                                        38740 - وقال خليفة بن خياط : وفي سنة سبع عشرة خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت ، وانصرف من سرغ وبها الطاعون .

                                                                                                                        38741 - وقال ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن أبي التياح يزيد بن حميد [ ص: 73 ] الضبعي قال : قلت لمطرف بن الشخير : " ما تقول - رحمك الله - في الفرار من الطاعون ؟ قال : هو القدر تخافونه ، وليس منه بد .

                                                                                                                        38742 - وقد ذكرنا أخبار هذا الباب كلها بالأسانيد في " التمهيد " ، وأخبارا غيرها في معناها ، والحمد لله كثيرا منها حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله - عز وجل - : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " [ البقرة : 243 ] . قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون ، فماتوا ، فدعا الله نبيا من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم الله ( عز وجل ) .

                                                                                                                        38743 - وقال عمرو بن دينار في هذه الآية : وقع الطاعون في قريتهم ، فخرج أناس ، وبقي أناس ، فمن خرج أكثر ممن بقي ، فنجا الذين خرجوا ، وهلك الذين أقاموا ، فلما كانت الثانية ، خرجوا بأجمعهم إلا قليلا ، فأماتهم الله ، ودوابهم ثم أحياهم ، فرجعوا إلى بلادهم وقد توالدت ذريتهم .

                                                                                                                        38744 - وقال المدائني : يقال : إنه ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت .

                                                                                                                        38745 - قال : وهرب عمرو بن عبيد ، ورباط بن محمد بن رباط من الطاعون ، فقال إبراهيم بن علي القعنبي :

                                                                                                                        [ ص: 74 ]

                                                                                                                        ولما استفز الموت كل مكذب صبرت ولم يصبر رباط ولا عمرو

                                                                                                                        .

                                                                                                                        38746 - وقد أحسن أبو العتاهية في قوله :


                                                                                                                        كل يوافي به القضاء إلى الموت ويوفيه رزقه كملا
                                                                                                                        كل فقد أمهله أمل يلهي ولكن خلفه الأجلا
                                                                                                                        يا بؤس للغافل المطيع عن أي عظيم من أمره غفلا

                                                                                                                        .




                                                                                                                        الخدمات العلمية