الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يح ) قيل : من العلماء من يضن بعلمه ، ولا يحب أن يوجد عند غيره فذاك في الدرك الأول من النار ، ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان ، فإن رد عليه شيء من حقه غضب ، فذاك في الدرك الثاني من النار ، ومن العلماء من يجعل حديثه وغرائب علمه لأهل الشرف واليسار ، ولا يرى الفقراء له أهلا ، فذاك في الدرك الثالث من النار ، ومن العلماء من كان معجبا بنفسه إن وعظ عنف ، وإن وعظ أنف ، فذاك في الدرك الرابع من النار .

                                                                                                                                                                                                                                            ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي خطأ ، فذاك في الدرك الخامس من النار ، ومن العلماء من يتعلم كلام المبطلين فيمزجه بالدين فهو في الدرك السادس من النار ، ومن العلماء من يطلب العلم لوجوه الناس فذاك في الدرك السابع من النار .

                                                                                                                                                                                                                                            ( يط ) قال الفقيه أبو الليث : من جلس مع ثمانية أصناف من الناس زاده الله ثمانية أشياء ، من جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبة فيها ، ومن جلس مع الفقراء جعل الله له الشكر والرضا بقسمة الله ، ومن جلس مع السلطان زاده الله القسوة والكبر ، ومن جلس مع النساء زاده الله الجهل والشهوة ، ومن جلس مع الصبيان ازداد من اللهو والمزاح ، ومن جلس مع الفساق ازداد من الجرأة على الذنوب وتسويف التوبة ، ومن جلس مع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات ، ومن جلس مع العلماء ازداد العلم والورع .

                                                                                                                                                                                                                                            ( يي ) إن الله علم سبعة نفر سبعة أشياء : ( أ ) علم آدم الأسماء ( وعلم آدم الأسماء كلها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ( ب ) علم الخضر الفراسة ( وعلمناه من لدنا علما ) [الكهف : 65] . ( ج ) وعلم يوسف علم التعبير ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ) [يوسف : 101] .

                                                                                                                                                                                                                                            ( د ) علم داود صنعة الدرع ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) [الأنبياء : 80] .

                                                                                                                                                                                                                                            ( ه ) علم سليمان منطق الطير ( ياأيها الناس علمنا منطق الطير ) [النمل : 16] .

                                                                                                                                                                                                                                            ( و ) علم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) [آل عمران : 48] .

                                                                                                                                                                                                                                            ( ز ) وعلم محمدا صلى الله عليه وسلم الشرع والتوحيد ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) [النساء : 113] ، ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) [البقرة : 129] ، ( الرحمن علم القرآن ) [الرحمن : 1 - 2] . فعلم آدم كان سببا له في حصول السجدة والتحية ، وعلم الخضر كان سببا لأن وجد تلميذا مثل موسى ويوشع عليهما السلام ، وعلم يوسف كان سببا لوجدان الأهل والمملكة ، وعلم داود كان سببا لوجدان الرياسة والدرجة ، وعلم سليمان كان سببا لوجدان بلقيس والغلبة ، وعلم عيسى كان سببا لزوال التهمة عن أمه ، وعلم محمد صلى الله عليه وسلم كان سببا لوجود الشفاعة ، ثم نقول : من علم أسماء المخلوقات وجد التحية من الملائكة ، فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة ؟ بل يجد تحية الرب ( سلام قولا من رب رحيم ) [يس : 58] والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى ، فيا أمة الحبيب بعلم الحقيقة كيف لا تجدون صحبة محمد صلى الله عليه وسلم ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) [النساء : 69] ، ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا ، فمن كان عالما بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشهوات ( ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [يونس : 25] وأيضا فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال : ( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) [يوسف : 101] .

                                                                                                                                                                                                                                            فأنت يا عالم أما تذكر منة الله على نفسك حيث علمك تفسير كتابه ؟ فأي نعمة أجل مما أعطاك الله ؟! حيث جعلك مفسرا لكلامه ، وسميا لنفسه ، ووارثا لنبيه ، وداعيا لخلقه ، وواعظا لعباده ، وسراجا لأهل بلاده ، وقائدا للخلق إلى جنته وثوابه ، وزاجرا لهم عن ناره وعقابه ، كما جاء في الحديث : العلماء سادة ، والفقهاء قادة ، ومجالستهم زيادة

                                                                                                                                                                                                                                            ( كا ) المؤمن لا يرغب في طلب العلم حتى يرى ست خصال من نفسه . أحدها : أن يقول : إن الله [ ص: 170 ] أمرني بأداء الفرائض ، وأنا لا أقدر على أدائها إلا بالعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثانية : أن يقول : نهاني عن المعاصي وأنا لا أقدر على اجتنابها إلا بالعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالثة : أنه تعالى أوجب علي شكر نعمه ولا أقدر عليه إلا بالعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابعة : أمرني بإنصاف الخلق وأنا لا أقدر أن أنصفهم إلا بالعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامسة : أن الله أمرني بالصبر على بلائه ولا أقدر عليه إلا بالعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والسادسة : أن الله أمرني بالعداوة مع الشيطان ولا أقدر عليها إلا بالعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ( كب ) طريق الجنة في أيدي أربعة : العالم والزاهد والعابد والمجاهد ، فالزاهد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الأمن ، والعابد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الخوف ، والمجاهد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الثناء والحمد ، والعالم إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الحكمة .

                                                                                                                                                                                                                                            ( كج ) اطلب أربعة من أربعة : من الموضع السلامة ، ومن الصاحب الكرامة ، ومن المال الفراغة ، ومن العلم المنفعة ، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه ، وإذا لم تجد من صاحبك الكرامة فالكلب خير منه ، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه ، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه .

                                                                                                                                                                                                                                            ( كد ) لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء : لا يتم الدين إلا بالتقوى ، ولا يتم القول إلا بالفعل ، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع ، ولا يتم العلم إلا بالعمل ، فالدين بلا تقوى على الخطر ، والقول بلا فعل كالهدر ، والمروءة بلا تواضع كشجر بلا ثمر ، والعلم بلا عمل كغيث بلا مطر .

                                                                                                                                                                                                                                            ( كه ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لجابر بن عبد الله الأنصاري : قوام الدنيا بأربعة بعالم يعمل بعلمه ، وجاهل لا يستنكف من تعلمه ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه ، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه ، فالويل لهم والثبور سبعين مرة .

                                                                                                                                                                                                                                            ( كو ) قال الخليل : الرجال أربعة رجل يدري ، ويدري أنه يدري فهو عالم فاتبعوه ، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهو نائم فأيقظوه ، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهو مسترشد فأرشدوه ، ورجل لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري فهو شيطان فاجتنبوه .

                                                                                                                                                                                                                                            ( كز ) أربعة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها ، وإن كان أميرا : قيامه من مجلسه لأبيه ، وخدمته لضيفه ، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه ، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه .

                                                                                                                                                                                                                                            ( كح ) إذا اشتغل العلماء بجمع الحلال صار العوام آكلين للشبهات ، وإذا صار العالم آكلا للشبهات صار العامي آكلا للحرام ، وإذا صار العالم آكلا للحرام صار العامي كافرا يعني إذا استحلوا .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الوجوه العقلية فأمور : أحدها : أن الأمور على أربعة أقسام ، قسم يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة ، وقسم ترضاه الشهوة ، ولا يرضاه العقل ، وقسم يرضاه العقل والشهوة معا ، وقسم لا يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول : فهو الأمراض والمكاره في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : فهو المعاصي أجمع .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثالث : فهو العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الرابع : فهو الجهل ، فينزل العلم من الجهل منزلة الجنة من النار ، فكما أن العقل والشهوة لا يرضيان بالنار فكذلك لا يرضيان بالجهل ، وكما أنهما يرضيان بالجنة فكذا يرضيان بالعلم ، فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة ، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة ، فكل من اختار العلم [ ص: 171 ] يقال له : تعودت المقام في الجنة فادخل الجنة ، ومن اكتفى بالجهل يقال له : تعودت النار فادخل النار ، والذي يدل على أن العلم جنة ، والجهل نار أن كمال اللذة في إدراك المحبوب ، وكمال الألم في البعد عن المحبوب ، والجراحة إنما تؤلم ؛ لأنها تبعد جزءا من البدن عن جزء محبوب من تلك الأجزاء وهو الاجتماع ، فلما اقتضت الجراحة إزالة ذلك الاجتماع ، فقد اقتضت إزالة المحبوب وبعده ، فلا جرم كان ذلك مؤلما ، والإحراق بالنار إنما كان أشد إيلاما من الجرح ؛ لأن الجرح لا يفيد إلا تبعيد جزء معين عن جزء معين ، أما النار فإنها تغوص في جميع الأجزاء فاقتضت تبعيد جميع الأجزاء بعضها عن بعض ، فلما كانت التفريقات في الإحراق أشد كان الألم هناك أصعب ، أما اللذة فهي عبارة عن إدراك المحبوب ، فلذة الأكل عبارة عن إدراك تلك الطعوم لموافقة للبدن ، وكذلك لذة النظر إنما تحصل ؛ لأن القوة الباصرة مشتاقة إلى إدراك المرئيات ، فلا جرم كان ذلك الإدراك لذة لها ، فقد ظهر بهذا أن اللذة عبارة عن إدراك المحبوب ، والألم عبارة عن إدراك المكروه ، وإذا عرفت هذا فنقول : كلما كان الإدراك أغوص وأشد ، والمدرك أشرف وأكمل ، والمدرك أنقى وأبقى ، وجب أن تكون اللذة أشرف وأكمل .

                                                                                                                                                                                                                                            ولا شك أن محمل العلم هو الروح وهو أشرف من البدن ، ولا شك أن الإدراك العقلي أغوص وأشرف على ما سيجيء بيانه في تفسير قوله : ( الله نور السماوات والأرض ) [النور : 35] . وأما المعلوم فلا شك أنه أشرف ؛ لأنه هو الله رب العالمين وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والجمادات والنبات والحيوانات ، وجميع أحكامه وأوامره وتكاليفه وأي معلوم أشرف من ذلك ، فثبت أنه لا كمال ، ولا لذة فوق كمال العلم ولذاته ، ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه ، ومما يدل على ما قلناه أنه إذا سئل الواحد منا عن مسألة علمية ، فإن علمها وقدر على الجواب والصواب فيها فرح بذلك وابتهج به ، وإن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك ، وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم أكمل اللذات ، والشقاء الحاصل بالجهل أكمل أنواع الشقاء .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية