الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له )

( الفصل الأول )

1837 - عن قبيصة بن مخارق قال : تحملت حمالة ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها ، فقال : " أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها " ، ثم قال : " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال سدادا من عيش ، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت ، يأكلها صاحبها سحتا " . رواه مسلم .

التالي السابق


( باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له )

( الفصل الأول )

1837 - ( عن قبيصة ) بفتح القاف وكسر الموحدة ( ابن مخارق ) بضم الميم وكسر الراء ، ( قال : تحملت حمالة ) بفتح الحاء وتخفيف الميم : ما يتحمله عن غيره من دية أو غرامة لدفع وقوع حرب يسفك الدماء بين فريقين . ذكره ابن الملك وغيره من علمائنا ، قال الطيبي : أي ما يتحمله الإنسان من المال أي يستدينه ويدفعه لإصلاح ذات البين فتحل له الصدقة إذا لم تكن الحمالة في المعصية ( فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها ) أي في الحمالة بمعنى لأجلها ( فقال : " أقم " ) أمر من الإقامة بمعنى اثبت واصبر " حتى تأتينا الصدقة " أي يحضرنا مالها " فنأمر لك بها " أي بالصدقة أو بالحمالة ( ثم قال : " يا قبيصة إن المسألة " ) أي السؤال والشحذة " لا تحل إلا لأحد ثلاثة " في شرح [ ص: 1308 ] ابن الملك قالوا : هذا بحث سؤال الزكاة وأما سؤال صدقة التطوع فمن لا يقدر على كسب لكونه زمنا أو ذا علة أخرى جاز له السؤال بقدر قوت يومه ولا يدخر ، وإن كان قادرا عليه فتركه لاشتغال العلم جازت له الزكاة وصدقة التطوع ، فإن تركه لاشتغال صلاة التطوع وصيامه لا تجوز له الزكاة ويكره له صدقة التطوع ، فإن جلس واحد أو جماعة في بقعة واشتغلوا بالطاعة ورياضة الأنفس وتصفية القلوب يستحب لواحد منهم أن يسأل صدقة التطوع وكسرات الخبز لهم واللباس لأجلهم " رجل " بالجر بدل من أحد ، وقال ابن الملك : من ثلاثة وبالرفع خبر مبتدأ محذوف " تحمل حمالة فحلت له المسألة " أي جازت بشرط أن يترك الإلحاح والتغليظ في الخطاب " حتى يصيبها " أي إلى أن يجد الحمالة أو يأخذ الصدقة ( ثم يمسك ) أي عن المسألة ، يعني إذا أخذ من الصدقات ما يؤدي ذلك الدين لا يجوز أخذ شيء آخر منها ، كذا ذكره ابن الملك وفيه نظر " ورجل " بالوجهين " أصابته جائحة " أي آفة وحادثة مستأصلة من جاحه يجوحه إذا استأصله وهي الآفة المهلكة للثمار والأموال ( اجتاحت ) أي استأصلت وأهلكت " ماله " من ثمار بستانه أو غيره من الأموال " فحلت له المسألة " أي سؤال المال من الناس " حتى يصيب قواما " أي إلى أن يدرك ما تقوم به حاجته الضرورية " من عيش " أي معيشة من قوت ولباس " أو قال " شك من الراوي " سدادا من عيش " بالكسر وهو الصواب ما يسد به الفقر ويدفع ويكفي الحاجة " ورجل " بالوجهين أي غني " أصابته فاقة " أي حاجة شديدة اشتهر بها بين قومه " حتى يقوم " أي على رءوس الأشهاد " ثلاثة من ذوي الحجا " بكسر الحاء وفتح الجيم أي العقل الكامل ( من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة ) أي يقوم ثلاثة قائلين هذا القول ، والمراد المبالغة في ثبوت الفاقة ، قال الصغاني : هكذا وقع في كتاب مسلم : يقوم ، والصحيح : يقول باللام ، وكذا أخرجه أبو داود وكذا في المصابيح ، وأجيب بأن تقدير القول مع القيام آكد ، وأغرب ابن حجر قال : وبما تقرر في معنى " يقوم " ، اندفع قول الصغاني ووجه غرابته أن كلام الصغاني في تصريح الرواية لا في تصحيح الدراية مع أن عدم الاحتياج إلى التقدير أظهر في مقام التقرير ، هذا وقد أبعد من قال إن " يقوم " بمعنى " يقول " ، وصححه ابن حجر ووجه بعده أن القول يأتي بمعنى الفعل لا العكس كما في هذا المحل فتأمل . قال ابن الملك : وهذا على سبيل الاستحباب والاحتياط ليكون أدل على براءة السائل عن التهمة في ادعائه وأدعى للناس إلى سرعة إجابته ، وخص بكونهم من قومه لأنهم هم العالمون بحاله وهذا من باب التبيين والتعريف إذ لا مدخل لعدد الثلاث من الرجال في شيء من الشهادات عند أحد من الأئمة ، وقيل : إن الإعسار لا يثبت عند البعض إلا بثلاثة لأنها شهادة على النفي فثلثت على خلاف ما اعتيد في الإثبات للحاجة ، وقال السيد جمال الدين نقلا عن التخريج : أخذ بظاهر الحديث بعض أصحابنا ، وقال الجمهور : يقبل من عدلين وحملوا الحديث على الاستحباب ، وهذا محمول على من عرف له مال فلا يقبل قوله في تلفه والإعسار إلا ببينة ، وأما من لم يعرف له مال فالقول قوله في عدم المال " فحلت له المسألة " أي فسبب هذه القرائن الدالة على صدقه في المسألة صارت حلالا له " حتى يصيب قواما من عيش ، أو قال سدادا من عيش " ويختلف فاعل قال باختلاف من وقع له الشك فتأمل " فما سواهن " أي هذه الأقسام الثلاثة من المسألة يا قبيصة " سحت " بضمتين وبسكون الثاني وهو الأكثر هو الحرام الذي لا يحل كسبه لأنه يسحت البركة أي يذهبها " يأكلها " أي يأكل ما يحصل له بالمسألة ، قاله الطيبي : والحاصل يأكل حاصلها " صاحبها سحتا " نصب على التمييز أو بدل من الضمير في يأكلها وجعله ابن حجر حالا ، قال ابن الملك : وتأنيث الضمير بمعنى الصدقة والمسألة ( رواه مسلم ) .

[ ص: 1309 ]



الخدمات العلمية