الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فقه التوسط (مقاربة لتقعيد وضبط الوسطية)

الدكتور / نوار بن الشلي

لا يقبل إلا ما كان لله تعالى خالصا

أول قاعدة من قواعد فقه التوسط نفتتح بها هذا السفر -سائلين الله تعالى أن يمن علينا بالإخلاص-: قاعدة الإخلاص لله وحده في جميع الأقوال والأفعال والأحوال، بحيث تلتقي وجهة المسلمين جميعا على إرادة وجه الله سبحانه في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، كما يلتقون على كلمة التوحيد، وكما يلتقون على التوجه إلى قبلة واحدة في صلاتهم، وكما يلتقون على تلاوة قرآن واحد في مشارق الأرض ومغاربها.

وللناس مقاصد وغايات مختلفة من وراء سعيهم في هذه الحياة، فهم يمضون متفرقين في خطوط متعددة، وفي سبل متفرقة ومناهج مختلفة، والإسلام يجمعهم على الإخلاص لله في كل حركاتهم وسكناتهم فلا يلتفتوا يمينا أو يسارا، فإذا ما توجهوا جهة أخرى غير التي حددت لهم انحرفوا عن الخط الوسط، خط الصراط المستقيم، عن عبد الله بن مسعود ، قال: ( خط لنا رسول الله خطا ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل على كل سـبيل منها شـيطان يدعو إليه، ثم قرأ : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) (الأنعام:153 ) [1] . [ ص: 21 ] ومن هنا تتجلى أهمية القـاعدة، حيث يتوقف مصـير الإنسـان على الإخلاص لله سـبحانه، إذ لا يقبل عمل أشـرك فيه صاحبه مع الله أحدا، " قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «كونوا لقبول العمل أشـد هما منكم بالعمـل، ألم تسـمعوا الله يقول: ( إنما يتقبل الله من المتقين ) " (المائدة:27) [2] .

وقال الفضيل بن عياض ، رحمه الله، في قوله تعالى: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (الملك:2) ، قال: «أخلصـه وأصـوبه: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صـوابا لم يقبل، وإذا كان صـوابا ولم يكن خالصـا لم يقـبل حتى يـكون خـالصـا صـوابا، قال: والخـالص إذا كان لله، عز وجل ، والصواب إذا كان على السنة» [3] .

وقـد دل على هـذا المعـنى، الـذي قـاله الفضـيل بن عياض، قـول الله عز وجل : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (الكهف:110) .

وفي الصحيحين ( عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل [ ص: 22 ] للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) [4] . ( ومن حـديث أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، قـال: سـمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار؛ ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم، ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار؛ ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت، ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار ) [5] .

وقد تحدث الشيخ محمد الغزالي ، رحمه الله، عملاق الفكر الوسطي والمقاصدي عن معنى الإخلاص بكلام نفيس جدا لم أجد بدا من نقله هنا على طوله، [ ص: 23 ] جاء فيه: إن النـية المدخـولة تنضـم إلى العمل الصـالح في صـورته فيسـتحيل بها إلى معصـية تستـجلب الويل:

( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) (الماعون:4-7)

إن الصلاة مع الرياء أمست جريمة، وبعد ما فقدت روح الإخلاص باتت صورة ميتة لا خير فيها.

كذلك الزكاة، إنها إن صدرت عن قلب يسخو لله ويدخر عنده قبلت، وإلا فهي عمل باطل:

( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) (البقرة: 264) .

إن القلب المقفر من الإخـلاص لا ينبت قـولا كالحجـر المكسـو بالتراب لا يخرج زرعا؛ والقشـور الخادعة لا تغنى عن اللباب الرديء شيئا؟ ألا ما أنفس الإخلاص، وأغزر بركته، إنه يخالط القليل فينميه حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير فلا يزن عند الله هباءة.

ولذلك ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخلص دينك يكفك العمل القليل ) [6] . ويظهر أن تفاوت الأجور التي رصدت للحسنات، من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة يعود إلى سر الإخلاص الكامن في أطواء الصدور وهو ما لا يطلع عليه إلا عالم الغيب والشهادة. فعلى قدر نقاء [ ص: 24 ] السريرة، وسعة النفع تكتب الأضعاف. وليس ظاهر الإنسان، ولا ظاهر الحياة الدنيا، هو الذي يمنحه الله رضوانه، فإن الله تبارك وتعالى يقبل على عباده المخبتـين المخلصـين، ويقبل منهم ما يتقربون به إليه، أما ما عدا ذلك من زخارف الدنيا وتكلفات البشر فلا قيمة له ولا اكتراث به. ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ) [7] . وفي الحديث: ( إذا كان يوم القـيامة جيء بالدنيا، فيمـيز منـها ما كان لله، وما كان لغير الله رمي به في نار جهنم ) .

فمن ربط حياته بهذه الحقائق فقد اسـتراح في معاشه، وتأهب لمعاده، فلا يضـيره ما فقده، ولا يحزنه ما قـدم. ( قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : من فارق الدنيا على الإخـلاص لله وحده وعبادته لا شـريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض ) [8] . وهذا مصـداق قوله تعـالى: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) (البينة: 5) .

والإخلاص يسطع شعاعه في النفس، أشد ما يكون تألقا في الشدائد الحرجة، إن الإنسان عندها ينسلخ من أهوائه، ويتبرأ من أخطائه ويقف في ساحة الله أوابا، يرجو رحمته ويخاف عذابه. وقد صور القرآن الكريم فزع الإنسـان عند الحيرة، وانقطاعه إلى ربه يسـتنجد به، [ ص: 25 ] ليخرجه من مأزق وقع فيه: ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ) (الأنعام:63-64) .

إن هذا الإخلاص حال طارئة، والأحوال التي تنتاب المرء وتفارقه ليسـت خلقا، والله تبارك وتعالى يريد من الناس أن يعرفوه حق المعرفة، وأن يقدروه حق قدره، في السـراء والضـراء جميعا، وأن يجعلوا الإخلاص له مكينا في سيرتهم فلا تهي صلتهم به، ولا يقصـدون بعملهم غيره. وحرارة الإخلاص تنطفئ رويدا رويدا، كلما هاجت في النفس نوازع الأثرة وحب الثـناء، والتطلع إلى الجاه وبعد الصـيت، والرغبة في العلو والافتخـار، وذلك لأن الله يحب للعمل أن ينقى من الشـوائب المكدرة

( ألا لله الدين الخالص ) (الزمر:3) .

وطبيعة الفضيلة كطبيعة الثمرة الناضجة، يجب لسلامتها والإبقاء على نظافتها وحلاوتها أن تكون خالية من العطوب والآفات!! وقد أعلن الإسـلام كراهيته العنيفة للرياء في الأعمال الصالحة، واعتبره شـركا بالله رب العالمين. والحق أن الرياء من أفتك العلل بالأعمال، وهو إذا استكمل أطواره وأتم دورته في النفس، كما تستكمل جراثيم الأوبئة أطوارها ودورتها، أصبح ضربا من الوثنية، التي تقذف بصاحبها في سواء الجحيم... " ( عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : قال رجل: يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله، وأريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله ( حتى نـزلت: ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (الكهف:110) . ) [ ص: 26 ]

وإنما كانت حملات الإسلام على الرياء وغيره من العلل الناشئة عن فقد الإخلاص على ما هي عليه من الشدة، لأنها فسـاد معقد، وطريقة ملتوية في التنفيس عن الشهوات المكبوتة. فالرذيلة السـافرة تولد جريمة، وتسـير في المجتمع جريمة، فهي منكورة محقورة، ولعل صاحبها، لشـعوره بسـوئها يتوب منها على عجل أو على مهل.. أما الرذيلة التي تظهر في لباس من الطاعة المطلوبة فهي رذيلة مرهوبة، الشر على صاحبها وعلى المجتمع؛ ذلك أن صاحبها يقترفها وهو يشبع نهم نفسـه، في الوقت الذي يتوهم فيه أنه يرضي الله.. فكيف يحس أنه ارتكب إثما؟ وكيف يتوب مما يفترض أنه خير؟ أما المجتمع العام فمصائبه من الفضلاء المنافقين أنكى من مصائبه التي ينـزلها به معتادو الإجرام من الصعاليك.

إن ضعف الإخلاص عند كثير من ذوى المواهب جعل البلاد تشقى بمواهبهم وترجع القهقري. ثم إن تلويث الفضيلة بأقذار الهوى عدوان على منـزلتها، ومحاولة متعمدة لإسقاط قيمتها. وهذا جرم آخر، ينشأ عن فقدان الإخلاص، والرجل الذي يقصد بعمله وجه الناس، ويذهل عن وجه ربه، رجل لا يدري لسـفاهته حطة ما يصنع بعمله. إنه ينصرف عن القوي الغني، ذي الجلال والإكرام، إلى الضـعاف الفقراء الذين لا حول لهم ولا طـول، ولذلك ( قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جمع الله الأولين [ ص: 27 ] والآخرين يوم القـيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشـرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ) [9] . على العسكريين، جنودا أو قادة، أن يجعلوا جهادهم منـزها عن الشوائب، فقد ربطوا حياتهم ومماتهم بواجب مقدس، تصغر إلى جانبه الألقاب والرتب والشارات، فليؤثروا ما عند الله، وليقفوا أمانيهم على التضحية المرتقبة والفداء العزيز.

( عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: «يا عبد الله بن عمرو، إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا.. يا عبد الله بن عمرو: على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال ) [10] .

وعلى الموظف، وهو في ديوانه، أن يعتد ما يكتبه، وما يحسبه، وما يكد فيه عقله، ويتعب فيه يده، عملا يقصد به مصلحة البلاد ورضا الله. إن الدابة قد تكدح سحابة النهار، نظير طعامها، والإنسان قد يهبط بقيمة جهده إلى مستوى الحيوان، فيكون عمله لقاء راتبه فحسب. لكن الرجل العاقل يغالي بتفكيره ونشاطه، فيجعلهما لشيء أجل. ومن المؤسف أن هناك جمهورا من الموظفين لا يفقهون إلا منطق المال والدرجة والترقية، ويحتبسون [ ص: 28 ] بدينهم ودنياهم داخل هذا النطاق، ويربطون رضاهم وسخطهم وفتورهم ونشاطهم بميزانه المضطرب.

والإخلاص العميق، ألزم ما يكون لميادين العلم والثقافة، فإن العلم أشرف ما ميز الله به الأكرمين من خلقه. فمن الزاوية الشنيعة به أن يسخر لعوامل الشر، وأن تختلط به الأهواء والفتن، والعالم لم تصبه الجراحات القاتلة إلا على أيدي علماء، فقدوا الخلق الفاضل، والنـزاهة المحمودة.

وقد أوجب الإسلام على الأستاذ والطالب جميعا، أن يتجردوا للعلم، وأن ينظرا قبل كل شيء إلى المثل العالية والمصلحة العامة. والتعلم والتعليم ابتغاء المال وحده وتلهفا على المنفعة الشـخصية المحضة، كما هو ديدن الألوف اليوم، هو في الحقيقة اسـتهانة بقيمة العلم، وإضاعة لرسـالته الجليـلة. ( قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : من تعلـم علما مما يبتغى به وجـه الله عز وجل ، لا يتـعلمه إلا ليصـيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) [11] . وقد كره الإسلام كذلك أن يطلب المرء العلم حتى إذا نبغ فيه استكبر به على الناس، واتخذه وسيلة للشغب والمراء. وفي الحديث: «لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار» [12] . [ ص: 29 ] إن العلم على اتسـاع فنونه الدنيوية والأخروية لم يزدهر ويصل إلى المرحـلة التي بلغها إلا بالتجرد الحق والتعالي عن الأغراض الصـغيرة. وهذا لا يعني ألبتة أن يكلف العلماء والمتعلمون بتحمل مشاق العيش، والتعرض للأزمات المحرجة، فإن إخلاص النية لا يستلزم إعنات المخلص وتحميله الأذى. والعلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا قلت تركت به ثلما شتى، ينفذ منها الشيطان.

وإنما يسـخط الله عز وجل على ذوى الأغراض والمرائين وغيرهم من عباد المال والجاه؛ لأن المفروض في المسـلم أن يضحى بالأغراض والعلاقات والشهوات في سبيل الله، لا أن يذهل عن وجه ربه في سبيلها. وقد كان سـحرة فرعون آية في اليقين الصـحيح والإخـلاص العالي، عندما رفضـوا الإغـراء، وحقـروا الإرهاب، وداسـوا حب المال والجاه، وقالوا للملك الجبار:

( قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ) (طه:72-73) .

وشـتان بين هؤلاء الذيـن يسـتهينون بالدنيا في سـبيل الله، وبين الذين يسـخرون الدين نفسـه في التقرب من كبير أو الاسـتحواذ على عرض حقير [13] . [ ص: 30 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية