الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 18 ] أما قوله سبحانه وتعالى : ( ألم تر أن الله يسجد له ) ففيه أسئلة :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : ما الرؤية هاهنا ؟ الجواب : أنها العلم أي ألم تعلم أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض ، وإنما عرف ذلك بخبر الله لا أنه رآه .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما السجود هاهنا ؟ قلنا : فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال الزجاج : أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة لله تعالى وهو كقوله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ] ، ( أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] ، ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) [ البقرة : 74 ] ، ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] ، ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ) والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود ، فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله : ( وكثير من الناس ) فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس ، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصا من غير فائدة ، والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه وإن كان عاما في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر ، فهذا الشخص وإن كان ساجدا بذاته لكنه متمرد بظاهره ، أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره ، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن نقطع قوله : ( وكثير من الناس ) عما قبله ثم فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن نقول : تقدير الآية : ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس ، فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني بمعنى الطاعة والعبادة ، وإنما فعلنا ذلك لأنه قامت الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معانيه جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يكون قوله : ( وكثير من الناس ) مبتدأ وخبره محذوف ، وهو مثاب ؛ لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله : ( حق عليه العذاب ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب ، كأنه قيل : وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة وفي حق الجمادات الانقياد ، ومن ينكر ذلك يقول : إن الله تعالى تكلم بهذه اللفظة مرتين ، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة ، وفي حق الجمادات الانقياد .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : قوله : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض ) [ الرعد : 15 ] لفظه لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى : ( وكثير من الناس ) الجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون ، فبين أن كثيرا منهم يسجدون طوعا دون كثير منهم ، فإنه يمتنع عن ذلك وهم الذين حق عليهم العذاب . القول الثاني : في تفسير السجود أن كل ما سوى الله تعالى فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال : ( وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] وكما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه وبقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه وحال بقائه ، وهذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع والتواضع من وضع الجبهة على الأرض ، فإن ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي ، قد يتطرق إليها الصدق والكذب ، أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير والتبدل ، فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى لله تعالى أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه ، وعلى هذا تأولوا قوله : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] [ ص: 19 ] وهذا قول القفال رحمه الله . القول الثالث : أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى : ( يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ) [ النحل : 48 ] وهو قول مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) فقال ابن عباس في رواية عطاء : وكثير من الناس يوحده وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده ، وروي عنه أيضا أنه قال : وكثير من الناس في الجنة . وهذه الرواية تؤكد ما ذكرنا أن قوله : ( وكثير من الناس ) مبتدأ وخبره محذوف ، وقال آخرون : الوقف على قوله : ( وكثير من الناس ) ثم استأنف ، فقال : ( وكثير حق عليه العذاب ) أي وجب بإبائه وامتناعه من السجود .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( ومن يهن الله فما له من مكرم ) فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم فيكون مكرما لهم ، ثم بين بقوله : ( إن الله يفعل ما يشاء ) أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية