الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم } { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه أو بالإقرار تأخيره ; لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره ; بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها ; فإن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل الله . فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده ; فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد ; لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله . ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات ; لإشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق ; بمنزلة الوالد إذا أدب ولده ; فإنه لو كف عن تأديب ولده - كما تشير به الأم رقة ورأفة - لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله ; مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع [ ص: 330 ] العروق بالفصاد ونحو ذلك ; بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة .

                فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها فإنه متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وابتغى بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره : ألان الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد .

                وأما إذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده . ويروى أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر . كيف هيبته فيكم ؟ قالوا : ما نستطيع أن ننظر إليه . قال : كيف محبتكم له ؟ قالوا : هو أحب إلينا من أهلنا قال : فكيف أدبه فيكم ؟ قالوا : ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال : هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء .

                وإذا قطعت يده حسمت ويستحب أن تعلق في عنقه . فإن [ ص: 331 ] سرق ثانيا : قطعت رجله اليسرى . فإن سرق ثالثا ورابعا : ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما : تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين . والثاني أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى .

                وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم كمالك والشافعي وأحمد ومنهم من يقول : دينار أو عشرة دراهم . فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفي الصحيحين { عن ابن عمر رضي الله عنهما . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم } وفي لفظ لمسلم { قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم } والمجن الترس . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا } وفي رواية لمسلم : { لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا } . وفي رواية للبخاري قال : { اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك } وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثني عشر درهما .

                ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز . فأما المال [ ص: 332 ] الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزر الآخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث .

                وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا قطع في ثمر ولا كثر } والكثر جمار النخل . رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : { سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال : معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها . قال : فالضالة من الغنم ؟ قال : لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها : قال : فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها ؟ قال : فيها ثمنها مرتين وضرب نكال . وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن . قال : يا رسول الله : فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال : من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال } . رواه أهل [ ص: 333 ] السنن . لكن هذا سياق النسائي . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم { ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع } فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية