الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهكذا يقال في نفي الطاقة عن المأمور: فإن إثبات الجبر في المحظور نظير سلب الطاقة في المأمور، وهكذا كان يقول الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة. [ ص: 70 ]

قال الخلال: أنبأنا الميموني قال سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يناظر خالد بن خداش - يعني في القدر - فذكروا رجلا فقال أبو عبد الله: إنما أكره من هذا أن يقول: أجبر الله.

وقال: أنبأنا المروزي: قلت لأبي عبد الله: رجل يقول: إن الله أجبر العباد، فقال: هكذا لا نقول، وأنكر هذا، وقال: يضل من يشاء ويهدي من يشاء [النحل: 93] .

وقال: أنبأنا المروزي قال: كتب إلي عبد الوهاب في أمر حسن بن خلف العكبري، وقال: إنه يتنزه عن ميراث أبيه، فقال رجل قدري: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه أحمد بن رجاء، فقال: إن الله جبر العباد على ما أراد. أراد بذلك إثبات القدر.

فوضع أحمد بن علي كتابا: يحتج فيه فأدخلته على أبي عبد الله فأخبرته بالقصة، فقال: «ويضع كتابا؟!»، وأنكر عليهما جميعا: على ابن رجاء حين قال: جبر العباد، وعلى القدري حين قال: لم يجبر، وأنكر على أحمد بن علي وضعه الكتاب واحتجاجه، وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب، [ ص: 71 ] وقال لي: يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال: جبر العباد.

فقلت لأبي عبد الله: فما الجواب في هذه المسألة؟ قال: يضل من يشاء ويهدي من يشاء [النحل: 93] .

قال المروزي في هذه المسألة: إنه سمع أبا عبد الله لما أنكر على الذي قال: لم يجبر، وعلى من رد عليه: جبر، فقال أبو عبد الله: كلما ابتدع رجل بدعة اتسع الناس في جوابها.

وقال: يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثة، وأنكر على من رد بشيء من جنس الكلام؛ إذ لم يكن له فيه إمام تقدم.

قال المروزي: فما كان بأسرع من أن قدم أحمد بن علي من عكبرا، ومعه مشيخة، وكتاب من أهل عكبرا، فأدخلت أحمد بن علي على أبي عبد الله، فقال: يا أبا عبد الله، هو ذا الكتاب ادفعه إلى أبي بكر حتى يقطعه، وأنا أقوم على منبر عكبرا، وأستغفر الله عز وجل، فقال أبو عبد الله لي: ينبغي أن يقبلوا منه، فرجعوا له.

وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في غير هذا الموضع، وتكلمنا على الأصل الفاسد الذي ظنه المتفرقون من أن إثبات المعنى الحق الذي يسمونه جبرا ينافي [ ص: 72 ] الأمر والنهي، حتى جعله القدرية منافيا للأمر والنهي مطلقا، وجعله طائفة من الجبرية منافيا لحسن الفعل وقبحه، وجعلوا ذلك مما اعتمدوه في نفي حسن الفعل وقبحه القائم به، المعلوم بالعقل.

ومن المعلوم أنه لا ينافي ذلك إلا كما ينافيه بمعنى كون الفعل ملائما للفاعل ونافعا له، وكونه منافيا للفاعل وضارا له.

ومن المعلوم أن هذا المعنى - الذي سموه جبرا - لا ينافي أن يكون الفعل نافعا وضارا، ومصلحة ومفسدة، وجالبا للذة وجالبا للألم.

فعلم أنه لا ينافي حسن الفعل وقبحه، كما لا ينافي ذلك، سواء كان ذلك الحسن معلوما بالعقل، أو معلوما بالشرع، أو كان الشرع مثبتا له لا كاشفا عنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية