الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                ثم قال البخاري - رحمه الله -:

                                373 380 ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له، فأكل منه، ثم قال: " قوموا فلأصلي لكم ". قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم انصرف

                                التالي السابق


                                " مليكة ": قال كثير من الناس: هي جدة إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، قالوا: والضمير في قوله: " أن جدته " إليه يعود، لا إلى أنس .

                                وقد روى هذا الحديث عبد الرزاق ، عن مالك ، وقال: يعني: جدة إسحاق .

                                وهذا تفسير من بعض رواة الحديث.

                                [ ص: 249 ] وقد ذكر ابن عبد البر وغيره: أنها هي أم سليم أم أنس بن مالك ; فإن أبا طلحة تزوجها بعد أبي أنس ، فولدت له عبد الله .

                                وقيل: بل مليكة أختها أم حرام زوجة عبادة ، وسماها جدته لأنها أخت جدته، على حد قوله تعالى حاكيا عن بني يعقوب ، أنهم قالوا لأبيهم: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فإن إسماعيل عمه، والعم صنو الأب.

                                وظاهر سياق الحديث: يدل على أن مليكة جدة أنس ، وهذا هو الأظهر. والله أعلم.

                                وروي صريحا من رواية مقدم بن يحيى ، عن عمه القاسم ، عن عبيد الله بن عمر ، عن إسحاق بن أبي طلحة ، عن أنس ، قال: أرسلت جدتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - واسمها: مليكة - فجاءنا، فحضرت الصلاة - وذكر الحديث.

                                خرجه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان ".

                                وقد ذكر ابن سعد : أن مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، هي أم حرام وسليم وأم سليم وأم حرام أولاد ملحان .

                                فتبين بهذا أن مليكة جدة أنس حقيقة، ولا يمنع من هذا أنه لم يذكرها في أسماء الصحابيات كثير ممن جمع في أسماء الصحابة ; لأن هذا الحديث الصحيح يشهد بذلك، والاعتماد عليه أقوى من الاعتماد على قول مثل ابن [ ص: 250 ] إسحاق والواقدي .

                                ويعضد صحة هذا: أن أحدا ممن يعتمد على قوله لم يسم أم سليم : مليكة ، وقول أنس : " فقمت إلى حصير لنا " يدل على أن هذا البيت كان بيت أم سليم أم أنس .

                                وقد رواه ابن عيينة ، عن إسحاق بن عبد الله مختصرا، وصرح فيه بأن العجوز التي صلت وراءهم هي أم سليم أم أنس ، وهذا يدل على أنها هي التي دعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعامها.

                                وخرجه النسائي من طريق يحيى بن سعيد ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أنس ، أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيها ويصلي في بيتها فتتخذه مصلى، فأتاها فعمدت إلى حصير فنضحته بماء، فصلى عليه وصلوا معه.

                                وقوله: " قد اسود من طول ما لبس " يدل على أن لبس كل شيء بحسبه، فلبس الحصير هو بسطه واستعماله في الجلوس عليه.

                                واستدل بذلك من حرم الجلوس على الحرير وافتراشه ; لأن افتراش فرش الحرير وبسطه لباس له، فيدخل في نصوص تحريم لباس الحرير.

                                وزعم ابن عبد البر : أن هذا يؤخذ منه أن من حلف لا يلبس ثوبا، وليس له نية ولا ليمينه سبب، فإنه يحنث بما يتوطأ ويبسط من الثياب ; لأن ذلك يسمى لباسا.

                                وهذا الذي قاله فيه نظر ; فإن اللبس المضاف إلى الثوب إنما يراد به اشتمال البدن أو بعضه به دون الجلوس عليه، بخلاف اللبس إذا أضيف إلى ما يجلس عليه ويفترش، أو أطلق ولم يضف إلى شيء، كما لو حلف لا يلبس شيئا [ ص: 251 ] فجلس على حصير، أو حلف لا يلبس حصيرا فجلس عليه.

                                ولو تعلق الحنث بما يسمى لباسا بوجه ما لكان ينبغي أن يحنث بمضاجعة زوجته وبدخول الليل عليه ; قال تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن وقال: وجعلنا الليل لباسا

                                وكل ما لابس الإنسان من جوع أو خوف فهو لباس ; قال تعالى: فأذاقها الله لباس الجوع والخوف

                                ولا نعلم خلافا أنه لو حلف لا يجلس على بساط، فجلس على الأرض لم يحنث، وقد سماها الله بساطا، وكذلك لو حلف لا يجلس تحت سقف فجلس تحت السماء، وقد سمى الله السماء سقفا، وكذلك لو حلف لا يجلس في ضوء سراج فجلس في ضوء الشمس.

                                فإن هذه الأسماء غير مستعملة في العرف، والأيمان إنما تنصرف إلى ما يتعارفه الناس في مخاطباتهم دون ما يصدق عليه الاسم بوجه ما في اللغة على وجه التجوز. والله أعلم.

                                وإنما قال أصحابنا: لو حلف ليرين امرأته عارية لابسة أنه يبرأ برؤيتها في الليل عارية ; لأن جمعه بين عريها ولبسها قرينة تدل على أنه لم يرد لبسها لثيابها ; فإن ذلك لا يجتمع مع عريها.

                                وأما نضح الحصير: فاختلف في معناه:

                                فقيل: هو تطهير له، وإزالة لما يتوهم فيه من إصابة النجاسة له مع كثرة استعماله وطول عهده في بيته يتربى فيه أولاد صغار.

                                وعلى هذا ; فقيل: إن النضح هو الغسل، وقيل: بل هو الرش.

                                وهذا يستدل به على تطهير ما شك في نجاسته بالنضح، وقد سبق ذكر ذلك في "كتاب الوضوء" وأن عمر وغيره فعلوه، وأن من الناس من خالف فيه، [ ص: 252 ] وقال: لا يزيده النضح إلا شرا.

                                وقيل: بل النضح هو تنظيف له من الوسخ، وتليين له.

                                وعلى هذا ; فالمراد بالنضح فيه بالرش على ظاهر اللفظ.

                                وهو الأظهر. والله أعلم.

                                ويشهد لذلك: ما خرجه مسلم من حديث أبي التياح ، عن أنس ، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، قال: فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه، فيصلي بنا. قال: وكان بساطهم من جريد النخل.

                                وخرج - أيضا - من رواية الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، قال: ثنا أبو سعيد الخدري أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده يصلي على حصير يسجد عليه.

                                وهذه الصلاة كانت تطوعا ; يدل على ذلك: ما خرجه مسلم من حديث ثابت ، عن أنس ، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي، فقال: "قوموا فلأصلي بكم" في غير وقت الصلاة، فصلى بنا.

                                وخرجه أبو داود ، وعنده: فصلى بنا ركعتين تطوعا.

                                وإنما خرجه البخاري في هذا الباب لأجل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الحصير، وقد خرجه في موضع آخر من " كتابه " هذا، ولفظه: فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                [ ص: 253 ] يعني: على الحصير الذي نضح.

                                وقد تبين برواية أبي التياح ، عن أنس أنه كان من جريد النخل، وقد سمي في بعض الروايات بساطا ; لأنه يبسط.

                                وخرج أبو داود من رواية قتادة ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور أم سليم فتدركه الصلاة أحيانا فيصلي على بساط لها، وهو حصير ننضحه بالماء.

                                وقد خرج البخاري - أيضا - في موضع آخر من " كتابه " هذا من حديث أنس بن سيرين ، عن أنس ، أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع الصلاة معك - وكان رجلا ضخما - فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما، فدعاه إلى منزله فبسط له حصيرا، ونضح طرف الحصير، فصلى عليه ركعتين.

                                فدلت هذه الأحاديث على جواز الصلاة على الحصير .

                                وفي حديث أبي سعيد الذي خرجه مسلم التصريح بأنه سجد عليه.

                                وكذلك روي من حديث أنس .

                                خرجه الإمام أحمد من رواية عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أنس ، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم على حصير قديم قد تغير من القدم. قال: ونضحه بشيء من ماء، فسجد عليه.

                                وأكثر أهل العلم على جواز الصلاة على الحصير والسجود عليه، وأن ذلك لا يكره إذا كان الحصير من جريد النخل أو نحوه مما ينبت من الأرض.

                                [ ص: 254 ] وممن روي عنه أنه صلى على الحصير: ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وجابر ، وأبو ذر .

                                وقال النخعي : كانوا يصلون على الحصير والبوري.

                                وقال مجاهد : لا بأس بالصلاة على الأرض وما أنبتت.

                                ومذهب مالك : لا بأس أن يسجد على الخمرة والحصير وما تنبت الأرض، ويضع كفيه عليها.

                                والسجود على الأرض أفضل عنده، وعند كثير من العلماء.

                                وكان ابن مسعود لا يصلي على شيء إلا على الأرض.

                                وروي عن أبي بكر الصديق ، أنه رأى قوما يصلون على بسط، فقال لهم: أفضوا إلى الأرض .

                                وفي إسناده نظر.

                                وروي عن ابن عمر أنه كان يصلي على الخمرة ويسجد على الأرض.

                                ونحوه عن علي بن حسين .

                                وقال النخعي في السجود على الحصير: الأرض أحب إلي.

                                وعنه، أنه قال: لا بأس أن يصلي على الحصير، لكن لا يسجد عليه.

                                ونقل حرب ، عن إسحاق ، قال: مضت السنة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على الخمرة والبساط، وعلى الثوب الحائل بينه وبين الأرض. قال: وإن سجد الرجل على الأرض فهو أحب إلي، وإن أفضى بجبهته ويديه إلى الأرض فهو أحب إلينا.

                                وأكثر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على الأرض، يدل على ذلك: أنه لما وكف المسجد وكان على عريش فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، وانصرف [ ص: 255 ] وأثر الماء والطين على جبهته وأنفه.

                                وخرج أبو داود من رواية شريح بن هانئ ، عن عائشة ، قالت: لقد مطرنا مرة بالليل، فطرحنا للنبي صلى الله عليه وسلم نطعا، فكأني أنظر إلى ثقب فيه ينبع الماء منه، وما رأيته متقيا الأرض بشيء من ثيابه قط.

                                وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه: قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقي الأرض بشيء، إلا مرة ; فإنه أصابه مطر فجلس على طرف بناء، فكأني أنظر إلى الماء ينبع من نقب كان فيه.

                                وخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما، وعندهم: أن شريحا قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكرت الحديث.

                                وفي رواية لابن جرير : أن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على شيء قط، إلا أنه أصابنا مطر ذات ليلة، فاجتر نطعا، فصلى عليه.

                                وخرجه الطبراني ، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى لا يضع تحت قدميه شيئا، إلا أنا مطرنا يوما فوضع تحت قدميه نطعا.

                                وهذه الرواية من رواية قيس بن الربيع ، عن المقدام بن شريح عن أبيه.

                                وخرج بقي بن مخلد في " مسنده " من رواية يزيد بن المقدام بن شريح ، عن أبيه، عن جده، قال: قلت لعائشة : يا أم المؤمنين، إن أناسا يصلون على هذه الحصر، ولم أسمع الله يذكرها في القرآن، إلا في مكان واحد: للكافرين حصيرا أفكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير؟ قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير .

                                [ ص: 256 ] وهذا غريب جدا.

                                ويزيد بن المقدام ، قال أبو حاتم : يكتب حديثه.

                                وخرج الإمام أحمد : ثنا عثمان بن عمر : ثنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على خمرة، فقال: " يا عائشة ، ارفعي حصيرك، فقد خشيت أن يكون يفتن الناس ".

                                وهذا غريب جدا.

                                ولكنه اختلف فيه على يونس :

                                فرواه مفضل بن فضالة ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الخمرة، ويسجد عليها .

                                ورواه شبيب بن سعيد ، عن يونس ، عن الزهري - مرسلا.

                                ورواه ابن وهب في " مسنده " عن يونس ، عن الزهري ، قال: لم أزل أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على خمرة - وعن أنس بن مالك ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة ويسجد عليها .

                                فرواه بالوجهين جميعا.

                                وأما رواية عثمان بن عمر ، عن يونس ، فالظاهر أنها غير محفوظة، ولا تعرف تلك الزيادة إلا فيها.



                                الخدمات العلمية