الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  71 13 - حدثنا سعيد بن عفير قال : حدثنا ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : قال حميد بن عبد الرحمن : سمعت معاوية خطيبا يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم والله يعطي ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة ; فإنها كلها من عين الحديث . وقال الكرماني في قوله " باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " : اعلم أن مثله سمي مرسلا عند طائفة ، والحق - وعليه الأكثر - أنه إذا ذكر الحديث مثلا ثم وصل به إسناده يكون مسندا لا مرسلا . قلت : لا دخل للإسناد والإرسال في مثل هذا الموضع ; لأنه ترجمة ولا يقصد بها إلا الإشارة إلى ما قصده من وضع هذا الباب .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم ستة ; الأول : سعيد بن عفير - بضم العين المهملة وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء ، [ ص: 49 ] وهو سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم بن يزيد بن حبيب بن الأسود ، أبو عثمان البصري ، سمع مالكا وابن وهب والليث وآخرين ، روى عنه محمد بن يحيى الذهلي والبخاري ، وروى مسلم والنسائي عن رجل عنه ، وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل : سمعت منه - أي ، وقال : لم يكن بالثبت ، كان يقرأ من كتب الناس ، وهو صدوق . وقال المقدسي : وكان سعيد بن عفير من أعلم الناس بالأنساب والأخبار الماضية والتواريخ والمناقب ، أديبا فصيحا حاضر الحجة مليح الشعر . توفي سنة ست وعشرين ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : عبد الله بن وهب بن مسلم البصري ، أبو محمد القرشي الفهري ، مولى يزيد بن رمانة مولى أبي عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهري ، سمع مالكا والليث والثوري وابن أبي ذئب وابن جريج وغيرهم ، وذكر بعضهم أنه روى عن نحو أربعمائة رجل وأن مالكا لم يكتب إلى أحد الفقه إلا إليه . وقال أحمد : هو صحيح الحديث ، يفصل السماع من العرض والتحديث من الحديث ، ما أصح حديثه وما أثبته ! وقال يحيى بن معين : ثقة . وقال ابن أبي حاتم : نظرت في نحو ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر وغير مصر فلا أعلم أني رأيت حديثا لا أصل له . وقال : صالح الحديث صدوق . وقال أحمد بن صالح : حدث بمائة ألف حديث . وقال ابن بكير : ابن وهب أفقه من ابن القاسم . ولد في ذي القعدة سنة خمس وعشرين ومائة ، وقيل سنة أربع ، وفيها مات الزهري ، وتوفي بمصر سنة سبع وتسعين ومائة لأربع بقين من شعبان ، روى له الجماعة ، وليس في الصحيحين عبد الله بن وهب غيره فهو من أفرادهما . وفي الترمذي وابن ماجه : عبد الله بن وهب الأسدي تابعي . وفي النسائي : عبد الله بن وهب عن تميم الداري - وصوابه ابن موهب ، وفي الصحابة : عبد الله بن وهب خمسة .

                                                                                                                                                                                  الثالث : يونس بن يزيد الأيلي ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الرابع : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الخامس : حميد بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  السادس : معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي ، كاتب الوحي ، أسلم عام الفتح ، وعاش ثمانيا وسبعين سنة ، ومات سنة ستين في رجب ، ومناقبه جمة ، وفي آخر عمره أصابته لقوة ، روي له عن رسول الله عليه السلام مائة حديث وثلاثة وستون حديثا ذكر البخاري منها ثمانية ومسلم خمسة واتفقا على أربعة أحاديث ، روى له الجماعة ، وليس في الصحابة معاوية بن صخر غيره ، وفيهم معاوية فوق العشرين .

                                                                                                                                                                                  بيان الطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ، ومنها أن رواته ما بين بصري وأيلي ومدني ، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي ، ومنها أنه قال في هذا الإسناد : وعن ابن شهاب قال : قال حميد بن عبد الرحمن - ولم يذكر فيه لفظ السماع ، وهكذا هو في جميع النسخ من البخاري ، وجاء في مسلم فيه عن ابن شهاب " حدثني حميد " بلفظ التحديث ، وقد اتفق أصحاب الأطراف وغيرهم على أنه من حديث ابن شهاب عن حميد المذكور ، قال الشيخ قطب الدين : فلا أدري لم قال فيه " قال حميد " مع الاتفاق على تحديث ابن شهاب عن حميد المذكور . قلت : يمكن أن يكون ذلك لأجل شهرة تحديث ابن شهاب عنه بهذا الحديث اقتصر فيه على هذا القول ; ولهذا قال في باب الاعتصام " عن ابن شهاب أخبرني حميد " ، وللبخاري عادة بذلك ، وقد قال في كتاب التوكيل في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " رجل آتاه الله القرآن " ، فقال فيه : حدثنا علي بن عبد الله ، ثنا سفيان ، قال الزهري - وذكر الحديث ، ثم قال : سمعت من سفيان مرارا ، لم أسمعه يذكر الخبر ، وهو من صحيح حديثه ، لكن يمكن أن يقال سفيان مدلس ، فلذلك نبه عليه البخاري .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " من يرد الله " بضم الياء ، مشتق من الإرادة وهي عند الجمهور صفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع ، وقيل إنها اعتقاد النفع أو الضر ، وقيل ميل يتبعه الاعتقاد - وهذا لا يصح في الإرادة القديمة .

                                                                                                                                                                                  قوله " خيرا " ; أي منفعة ، وهو ضد الشر ، وهو اسم ها هنا وليس بأفعل التفضيل .

                                                                                                                                                                                  قوله " يفقهه " ; أي يجعله فقيها في الدين ، والفقه لغة الفهم ، وعرفا العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال ، ولا يناسب هنا إلا المعنى اللغوي ليتناول فهم كل علم من علوم الدين . وقال الحسن البصري : الفقيه هو الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بأمر دينه المداوم على عبادة ربه . وقال ابن سيده في المخصص : فقه الرجل فقاهة ، وهو فقيه من قوم فقهاء ، والأنثى فقيهة . وقال بعضهم : فقه الرجل فقها وفقها وفقها ، ويعدى فيقال فقهته كما يقال علمته . وقال سيبويه : فقه فقها وهو فقيه كعلم علما وهو عليم ، وقد أفقهته وفقهته علمته وفهمته ، والتفقه تعلم الفقه ، وفقهت عليه فهمت ، ورجل فقه وفقيه والأنثى فقهة ، ويقال للشاهد : كيف فقاهتك [ ص: 50 ] لما أشهدناك ؟ ولا يقال في غير ذلك ، والفقه الفطنة .

                                                                                                                                                                                  وقال عيسى بن عمر : قال لي أعرابي : شهدت عليك بالفقه - أي بالفطنة ، وفي المحكم : الفقه العلم بالشيء والفهم له ، وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلوم ، والأنثى فقيهة من نسوة فقهاية - وحكى اللحياني من نسوة فقهاء ، وهي نادرة ، وكأن قائل هذا من العرب لم يعتد بهاء التأنيث ، ونظيرها نسوة فقراء ، وفي الموعب لابن التيامي : فقه فقها - مثال حذر - إذا فهم ، وأفقهته إذا بينت له . وقال ثعلب : القرآن أصل لكل علم ، به فقه العلماء - فمن قال فقه فهو فقيه مثال مرض فهو مريض ، وفقه فهو فقيه ككرم وظرف فهو كريم وظريف ، وفي الصحاح : فاقهته إذا باحثته في العلم . وفي الجامع لأبي عبد الله : فقه الرجل تفقه فقها فهو فقيه ، وقيل : أفصح من هذا فقه يفقه مثل علم يعلم علما ، والفقه علم الدين ، وقد تفقه الرجل تفقها كثر علمه ، وفلان ما يتفقه ولا يفقه أي لا يعلم ولا يفهم . وقالوا : كل عالم بشيء فهو فقيه به ، وفي الغريبين : فقه فهم ، وفقه صار فقيها . وقال ابن قتيبة : يقال للعلم الفقه لأنه عن الفهم يكون ، والعالم فقيه لأنه إنما يعلم بفهمه على تسمية الشيء بما كان له سببا . وقال ابن الأنباري : قولهم رجل فقيه معناه عالم .

                                                                                                                                                                                  قوله " قاسم " اسم فاعل ، من قسم الشيء يقسمه قسما بالفتح ، والقسم بالكسر الحظ والنصيب - وبالفتح أيضا هو القسمة بين النساء في البيتوتة ، والقسم بفتحتين اليمين ، والقسمة الاسم .

                                                                                                                                                                                  قوله " ولن تزال " الفرق بين زال يزال وزال يزول هو أن الأولى من الأفعال الناقصة ويلزمه النفي بخلاف الثاني . والأمة الجماعة ، قال الأخفش : هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع ، وكل جنس من الحيوان أمة ، وفي الحديث " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها " ، والأمة القامة ، والأمة الطريقة والدين ، وقوله تعالى " كنتم خير أمة " قال الأخفش : يريد أهل أمة ; أي خير أهل دين . والأمة الحين ، قال تعالى : وادكر بعد أمة وقال : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة والإمة بالكسر لغة في الأمة ، والإمة بالكسر أيضا النعمة ، والأمة بالضم الملك أيضا وأتباع الأنبياء أيضا ، والأمة الرجل الجامع للخير أيضا ، والأمة الأم ، والأمة الرجل المنفرد برأيه لا يشاركه فيه أحد .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " سمعت معاوية " فيه حذف المسموع ; لأن المسموع هو الصوت لا الشخص ، قال الزمخشري : تقول سمعت رجلا يقول كذا ، فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع ; لأنك وصفته بما يسمع أو جعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره ، ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد أن يقال سمعت قول فلان .

                                                                                                                                                                                  قوله " خطيبا " نصب على الحال من معاوية ، وقال الكرماني : حال من المفعول لا من الفاعل ; لأنه أقرب ، ولأن الخطبة تليق بالولاة . قلت : لا يبادر الوهم قط ها هنا إلى كون حميد هو الخطيب حتى يعلل بهذين التعليلين ، ولو قال مثل ما قلنا لكان كفى .

                                                                                                                                                                                  قوله " يقول " جملة في محل النصب على الحال .

                                                                                                                                                                                  وقوله " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم " مقول القول ، وقوله " يقول " أيضا حال .

                                                                                                                                                                                  قوله " من " موصولة يتضمن معنى الشرط ، فلذلك جزم يرد ويفقهه لأنهما فعل الشرط والجزاء .

                                                                                                                                                                                  قوله " إنما " من أداة الحصر ، وأنا مبتدأ وقاسم خبره ، وقوله " والله " أيضا مبتدأ ويعطي خبره ، والجملة تصح أن تكون حالا .

                                                                                                                                                                                  قوله " ولن تزال " ، كلمة " لن " ناصبة للنفي في الاستقبال ، وتزال من الأفعال الناقصة ، وقوله " هذه الأمة " اسمه وقائمة خبره .

                                                                                                                                                                                  قوله " لا يضرهم " جملة من الفعل والمفعول ، وقوله " من " فاعله ، وهي موصولة ، وخالفهم جملة صلتها .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما موقع هذه الجملة - أعني قوله " لا يضرهم من خالفهم " ؟ قلت : حال ، وقد علم أن المضارع المنفي إذا وقع حالا يجوز فيه الواو وتركه .

                                                                                                                                                                                  قوله " حتى " غاية لقوله " لن تزال " ، فإن قلت : حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ، فيلزم منه أن يوم القيامة لا تكون هذه الأمة على الحق ، وهو باطل ! قلت : المراد من قوله " على أمر الله " هو التكاليف ، ويوم القيامة ليس زمان التكاليف ، والأحسن أن يقال : ليس المقصود منه معنى الغاية ، بل هو مذكور لتأكيد التأبيد ، نحو قوله تعالى : ما دامت السماوات والأرض

                                                                                                                                                                                  ويقال : حتى للغاية على أصله ، ولكنه غاية لقوله " لا يضرهم " لأنه أقرب ، والمراد من قوله " حتى يأتي أمر الله " حتى يأتي بلاء الله فيضرهم حينئذ ، فيكون ما بعدها مخالفا لما قبلها ، أو يكون ذكره لتأكيد عدم المضرة كأنه قال لا يضرهم أبدا ، والمراد : قوله " حتى يأتي أمر الله " يوم القيامة ، والمضرة لا تمكن يوم القيامة ، فكأنه قال لا يضرهم من خالفهم أصلا .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : إذا جاء الدجال مثلا وقتلهم فقد ضرهم ! قلت : على تفسير أمر الله ببلاء الله ظاهر لا يرد شيء ، وعلى التفسير بيوم القيامة يقال ليس ذلك مضرة في الحقيقة إذ [ ص: 51 ] الشهادة أعظم المنافع من جهة الآخرة وإن كانت مضرة بحسب الظاهر .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : هل يجوز أن تتعلق حتى بالفعلين المذكورين بأن يتنازعا فيها - قلت : لا مانع من ذلك لا من جهة المعنى ولا من جهة الإعراب .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : إذا كان حتى بمعنى إلى ويكون معنى " حتى يأتي أمر الله " إلى أن يأتي أمر الله ، هل يكون بينهما فرق ؟ قلت : نعم ، بينهما فرق ; لأن مجرور " حتى " يجب أن يكون آخر جزء من الشيء أو ما يلاقي آخر جزء منه . وقال الزمخشري في قوله " ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم " : الفرق بينهما أن حتى مختصة بالغاية المضروبة أي المعينة ، تقول أكلت السمكة حتى رأسها ، ولو قلت حتى نصفها أو صدرها لم يجز ، وإلى عامة في كل غاية ; فافهم !

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : فيه تنكير قوله " خيرا " لفائدة التعميم ; لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي ، فالمعنى : من يرد الله به جميع الخيرات - ويجوز أن يكون التنوين للتعظيم ، والمقام يقتضي ذلك ، كما في قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                  له حاجب عن كل أمر يشينه

                                                                                                                                                                                  أي صاحب عظيم ومانع قوي .

                                                                                                                                                                                  وفيه " إنما " التي تفيد الحصر ، والمعنى : ما أنا إلا قاسم .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : كيف يصح هذا وله صفات أخرى مثل كونه رسولا ومبشرا ونذيرا ؟ قلت : الحصر بالنسبة إلى اعتقاد السامع ، وهذا ورد في مقام كان السامع معتقدا كونه معطيا ، وإن اعتقد أنه قاسم فلا ينفي إلا ما اعتقده السامع لا كل صفة من الصفات ، وحينئذ إن اعتقد أنه معط لا قاسم فيكون من باب قصر القلب ; أي ما أنا إلا قاسم - أي لا معط . وإن اعتقد أنه قاسم ومعط أيضا فيكون من قصر الإفراد ، أي لا شركة في الوصفين ، أي بل أنا قاسم فقط ، ومعناه أنا أقسم بينكم فألقي إلى كل واحد ما يليق به والله يوفق من يشاء منكم لفهمه والتفكر في معناه . وقال التوربشتي : اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام أعلم أصحابه أنه لم يفضل في قسمة ما أوحى الله إليه أحدا من أمته على أحد ، بل سوى في البلاغ وعدل في القسمة ، وإنما التفاوت في الفهم وهو واقع من طريق العطاء ، ولقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي ، ويسمعه آخر منهم أو من بعدهم فيستنبط منه مسائل كثيرة ; وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وقال الشيخ قطب الدين في شرحه : " إنما أنا قاسم " يعني أنه لم يستأثر بشيء من مال الله ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : " ما لي بما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، وهو مردود عليكم " ، وإنما قال " أنا قاسم " تطييبا لنفوسهم لمفاضلته في العطاء ، فالمال لله والعباد لله ، وأنا قاسم بإذن الله ماله بين عباده . قلت : بين الكلامين بون ; لأن الكلام الأول يشعر بأن القسمة في تبليغ الوحي وبيان الشريعة ، وهذا الكلام صريح في قسمة المال ، ولكل منهما وجه ; أما الأول فإن نظر صاحبه إلى سياق الكلام فإنه أخبر فيه أن من أراد الله به خيرا يفقهه في الدين أي في دين الإسلام ، قال الله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام وقيل : الفقه في الدين الفقه في القواعد الخمس ، ويتصل الكلام عليها في الأحكام الشرعية ، ثم لما كان فقههم متفاوتا لتفاوت الأفهام أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " إنما أنا قاسم " ; يعني هذا التفاوت ليس مني ، وإنما الذي هو مني هو القسمة بينكم - يعني تبليغ الوحي إليهم من غير تخصيص بأحد ، والتفاوت في أفهامهم من الله تعالى لأنه هو المعطي يعطي الناس على قدر ما تعلقت به إرادته ; لأن ذلك فضل منه يؤتيه من يشاء .

                                                                                                                                                                                  وأما الثاني فإن نظر صاحبه إلى ظاهر الكلام لأن القسمة حقيقة تكون في الأموال ، ولكن يتوجه هنا السؤال عن وجه مناسبة هذا الكلام لما قبله ، ويمكن أن يجاب عنه بأن مورد الحديث كان وقت قسمة المال حين خصص عليه السلام بعضهم بالزيادة لحكمة اقتضت ذلك وخفيت عليهم حتى تعرض منهم بأن هذه قسمة فيها تخصيص لناس ، فرد عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله " من يرد الله به ... " إلى آخره ; يعني من أراد الله به خيرا يوفقه ويزيد له في فهمه في أمور الشرع ولا يتعرض لأمر ليس على وفق خاطره ; إذ الأمر كله لله وهو الذي يعطي ويمنع ، وهو الذي يزيد وينقص ، والنبي عليه الصلاة والسلام قاسم وليس بمعط حتى ينسب إليه الزيادة والنقصان ، وعن هذا فسر أصحاب الكلام الثاني قوله عليه الصلاة والسلام " والله يعطي " بقولهم : أي من قسمت له كثيرا فبقدر الله تعالى وما سبق له في الكتاب ، وكذا من قسمت له قليلا فلا يزداد لأحد في رزقه كما لا يزداد في أجله . وقال الداودي في قوله " إنما أنا قاسم والله يعطي " : دليل على أنه إنما يعطي بالوحي - ثم قال في آخر كلامه : إن شأن أمته القيام على أمر الله إلى يوم القيامة ، وهم الذين أراد الله بهم خيرا حتى فقهوا في الدين ونصروا الحق ولم يخافوا ممن خالفهم ولا أكثر ثوابهم ، [ ص: 52 ] " أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " .

                                                                                                                                                                                  قوله " والله يعطي " فيه تقديم لفظة " الله " لإفادة التقوية عند السكاكي ، ولا يحتمل التخصيص ; أي الله يعطي لا محالة ، وأما عند الزمخشري فيحتمله أيضا ، وحينئذ يكون معناه الله يعطي لا غيره .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : إذا كانت هذه الجملة حالية - أعني قوله " والله يعطي " - فما يكون معنى الحصر حينئذ ؟ قلت : الحصر بإنما دائما في الجزء الأخير ، فيكون معناه ما أنا بقاسم إلا في حال إعطاء الله لا في حال غيره ، وفيه حذف المفعول - أعني مفعول يعطي ; لأنه جعله كاللازم إعلاما بأن المقصود منه بيان اتحاد هذه الحقيقة أي حقيقة الإعطاء لا بيان المفعول أي المعطى .

                                                                                                                                                                                  قوله " ولن تزال ... " إلخ - أراد به أن أمته آخر الأمم وأن عليها تقوم الساعة ، وإن ظهرت أشراطها وضعف الدين فلا بد أن يبقى من أمته من يقوم به . فإن قيل : قال عليه السلام " لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد الله " ، وقال أيضا " لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق " - قلنا : هذه الأحاديث لفظها العموم والمراد منها الخصوص ، فمعناه لا تقوم على أحد يوحد الله تعالى إلا بموضع كذا ; إذ لا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحق توحد الله هي شرار الخلق ، وقد جاء ذلك مبينا في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ! قيل : وأين هم يا رسول الله ؟ قال : ببيت المقدس - أو أكناف بيت المقدس . وقال النووي : لا مخالفة بين الأحاديث ; لأن المراد من أمر الله الريح اللينة التي تأتي قريب القيامة فتأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة ، وهذا قبل القيامة ، وأما الحديثان الأخيران فهما على ظاهرهما ; إذ ذلك عند القيامة .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : من هؤلاء الطائفة ؟ قلت : قال البخاري : هم أهل العلم . وقال الإمام أحمد : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ! وقال القاضي عياض : إنما أراد الإمام أحمد أهل السنة والجماعة . وقال النووي : يحتمل أن تكون هذه الطائفة مفرقة من أنواع المؤمنين ; فمنهم مقاتلون ، ومنهم فقهاء ، ومنهم محدثون ، ومنهم زهاد - إلى غير ذلك .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه دلالة على حجية الإجماع ; لأن مفهومه أن الحق لا يعدو الأمة ، وحديث " لا تجتمع أمتي على الضلالة " ضعيف .

                                                                                                                                                                                  الثاني : استدل به البعض على امتناع خلو العصر عن المجتهد .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه فضل العلماء على سائر الناس .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم ، وإنما ثبت فضله لأنه يقود إلى خشية الله تعالى والتزام طاعته .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه إخباره عليه الصلاة والسلام بالمغيبات ، وقد وقع ما أخبر به ولله الحمد ، فلم تزل هذه الطائفة من زمنه وهلم جرا ، ولا تزول حتى يأتي أمر الله تعالى .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية