الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

[ الألفاظ على ثلاثة أقسام ]

فإن تمهدت هذه القاعدة فنقول : الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونياتهم وإرادتهم لمعانيها ثلاثة أقسام : أحدها : أن تظهر مطابقة القصد للفظ ، وللظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية وحال المتكلم به وغير ذلك ، كما إذا سمع العاقل والعارف باللغة قوله صلى الله عليه وسلم : { إنكم سترون ربكم عيانا ، كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ، وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب ، لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤيتها } فإنها لا يستريب ولا يشك في مراد المتكلم وأنه رؤية البصر حقيقة ، وليس في الممكن عبارة أوضح ولا أنص من هذه . ولو اقترح على أبلغ الناس أن يعبر عن هذا المعنى بعبارة لا تحتمل غيره لم يقدر على عبارة أوضح ولا أنص من هذه ، وعامة كلام الله ورسوله من هذا القبيل ; فإنه مستول على الأمد الأقصى من البيان .

فصل

القسم الثاني : ما يظهر بأن المتكلم لم يرد معناه ، وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين بحيث لا يشك السامع فيه ، وهذا القسم نوعان ; أحدهما : أن لا يكون مريدا لمقتضاه ولا لغيره ، والثاني : أن يكون مريدا لمعنى يخالفه ; فالأول كالمكره والنائم والمجنون ومن اشتد به الغضب والسكران ، والثاني : كالمعرض والموري والملغز والمتأول .

فصل

القسم الثالث : ما هو ظاهر في معناه ويحتمل إرادة المتكلم له ويحتمل إرادته غيره ، [ ص: 89 ] ولا دلالة على واحد من الأمرين ، واللفظ دال على المعنى الموضوع له ، وقد أتى به اختيارا .

[ متى يحمل الكلام على ظاهره ؟ ]

فهذه أقسام الألفاظ بالنسبة إلى إرادة معانيها ومقاصد المتكلم بها ، وعند هذا يقال : إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره ، والأدلة التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه وأضعافها كلها إنما تدل على ذلك ، وهذا حق لا ينازع فيه عالم ، والنزاع إنما هو في غيره .

إذا عرف هذا فالواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره ، وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب ، ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك . ومدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه .

قال الشافعي : وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ظاهره بت ، ومن ادعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمراد المتكلم لأن العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشرة أشياء فهو ملبوس عليه ملبس على الناس ; فإن هذا لو صح لم يحصل لأحد العلم بكلام المتكلم قط ، وبطلت فائدة التخاطب ، وانتفت خاصية الإنسان ، وصار الناس كالبهائم ، بل أسوأ حالا ، ولما علم عرض هذا المصنف من تصنيفه ، وهذا باطل بضرورة الحس والعقل ، وبطلانه من أكثر من ثلاثين وجها مذكورة في غير هذا الموضع ، ولكن حمل كلام المتكلمين على ظاهره لا ينبغي صرفه عن ذلك لدلالة تدل عليه كالتعريض ولحن الخطاب والتورية وغير ذلك ، وهذا أيضا مما لا ينازع فيه العقلاء .

[ متى يحمل الكلام على غير ظاهره ] ؟

وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكما بعد ظهور مراد المتكلم والفاعل بخلاف ما أظهره ; فهذا هو الذي وقع فيه النزاع ، وهو : هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها أم للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها ؟ وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة ، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته ، بل أبلغ من ذلك ، وهي أنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته ، بل أبلغ من ذلك ، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلا وتحريما فيصير حلالا تارة وحراما تارة باختلاف النية والقصد ، كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافها ، وهذا كالذبح فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذا [ ص: 90 ] ذبح لغير الله ، وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم ، وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشتري وينوي أنها له فتحل له ، وصورة العقد واحدة ، وإنما اختلفت النية والقصد ، وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل صورتهما واحدة وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد ، وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرا معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصره بنية أن يكون خلا أو دبسا جائز وصورة الفعل واحدة ، وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلما حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة ، وكذلك عقد النذر المعلق على شرط ينوي به التقرب والطاعة فيلزمه الوفاء بما نذره وينوي به الحلف والامتناع فيكون يمينا مكفرة ، وكذلك تعليق الكفر بالشرط ينوي به اليمين والامتناع فلا يكفر بذلك وينوي به وقوع الشرط فيكفر عند وجود الشرط

[ ولا يكفر إن نوى به اليمين ]

وصورة اللفظ واحدة ، وكذلك ألفاظ الطلاق صريحها وكنايتها ينوي بها الطلاق فيكون ما نواه وينوي به غيره فلا تطلق ، وكذلك قوله : " أنت عندي مثل أمي " ينوي بها الظهار فتحرم عليه وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه ، وكذلك من أدى عن غيره واجبا ينوي به الرجوع ملكه وإن نوى به التبرع لم يرجع .

وهذا كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود فهي أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات ; فقد اطردت سنته بذلك في شرعه وقدره ، أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره ; فإن القربات كلها مبناها على النيات ، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد ، ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل أو دخل الحمام للتنظيف أو سبح للتبرد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق ، فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له ، وإنما لامرئ ما نوى ، ولو أمسك عن المفطرات عادة واشتغالا ولم ينو القربة لم يكن صائما ، ولو دار حول البيت يلتمس شيئا سقط منه لم يكن طائفا ، ولو أعطى الفقير هبة أو هدية ولم ينو الزكاة لم يحسب زكاة ، ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له .

وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب ; ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته أو أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته ، ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام ، ولو أكل طعاما حراما يظنه حلالا لم يأثم به ، ولو أكله وهو حلال يظنه حراما وقد أقدم عليه أثم بنيته ، وكذلك لو قتل من [ ص: 91 ] يظنه مسلما معصوما فبان كافرا حربيا أثم بنيته ، ولو رمى صيدا فأصاب معصوما لم يأثم ، ولو رمى معصوما فأخطأه وأصاب صيدا أثم ، ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار لنية كل واحد منهما قتل صاحبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية