الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ الاقتدار ]

الاقتدار : هو أن يبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور اقتدارا منه على نظم الكلام وتركيبه على صياغة قوالب المعاني والأغراض ، فتارة يأتي به في لفظ الاستعارة ، وتارة في صورة الإرداف ، وحينا في مخرج الإيجاز ، ومرة في قالب الحقيقة .

قال ابن أبي الإصبع : وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن ، فإنك ترى القصة الواحدة التي لا تختلف معانيها تأتي في صورة مختلفة ، وقوالب من الألفاظ متعددة ، حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه ، ولا بد أن تجد الفرق بين صورها ظاهرا .

ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى :

الأول : أن تكون الألفاظ يلائم بعضها بعضا بأن يقرب الغريب بمثله ، والمتداول [ ص: 163 ] بمثله رعاية لحسن الجوار والمناسبة .

والثاني : أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد ، فإن كان فخما كانت ألفاظه فخمة ، أو جزلا فجزلة ، أو غريبا فغريبة ، أو متداولا فمتداولة ، أو متوسطا بين الغرابة والاستعمال فكذلك .

فالأول كقوله تعالى : تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا [ يوسف : 85 ] ، أتى بأغرب ألفاظ القسم وهي ( التاء ) ، فإنها أقل استعمالا وأبعد من أفهام العامة بالنسبة إلى ( الباء ) و ( الواو ) ، وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار ، فإن ( تزال ) أقرب إلى الأفهام ، وأكثر استعمالا منها ، وبأغرب ألفاظ الهلاك وهو ( الحرض ) ، فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة ، توخيا لحسن الجوار ، ورعاية في ائتلاف المعاني بالألفاظ ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم ، ولما أراد غير ذلك قال : وأقسموا بالله جهد أيمانهم [ الأنعام : 109 ] ، فأتى بجميع الألفاظ متداولة لا غرابة فيها .

ومن الثاني قوله تعالى : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار [ هود : 113 ] ، لما كان الركون إلى الظالم ؛ وهو الميل إليه والاعتماد عليه دون مشاركته في الظلم ، وجب أن يكون العقاب عليه دون العقاب على الظلم ، فأتى بلفظ المس الذي هو دون الإحراق والاصطلاء .

وقوله : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا [ البقرة : 286 ] ، أتى بلفظ الاكتساب المشعر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها ، وكذا قوله : فكبكبوا فيها [ الشعراء : 94 ] ، فإنه أبلغ من ( كبوا ) للإشارة إلى أنهم مكبون كبا عنيفا فظيعا . وهم يصطرخون [ فاطر : 37 ] ، فإنه أبلغ ممن يصرخون للإشارة إلى أنهم يصرخون صراخا منكرا ، خارجا عن الحد المعتاد .

أخذ عزيز مقتدر [ القمر : 42 ] ، فإنه أبلغ من ( قادر ) للإشارة إلى زيادة التمكن في القدرة ، وأنه لا راد له ولا معقب .

ومثل ذلك : واصطبر [ مريم : 65 ] ، فإنه أبلغ من ( اصبر ) . و : الرحمن ، فإنه أبلغ من الرحيم ، فإنه يشعر باللطف والرفق ، كما أن ( الرحمن ) يشعر بالفخامة والعظمة .

[ ص: 164 ] ومنه الفرق بين ( سقى ) و ( أسقى ) ، فإن ( سقى ) لما لا كلفة معه في السقيا ، ولهذا أورده تعالى في شراب الجنة ، فقال : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ الإنسان : 21 ] ، و ( أسقى ) لما فيه كلفة ، ولهذا أورده في شراب الدنيا ، فقال : وأسقيناكم ماء فراتا [ المرسلات : 27 ] ، لأسقيناهم ماء غدقا [ الجن : 16 ] ؛ لأن السقيا في الدنيا لا تخلو من الكلفة أبدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية