الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 464 ] المسألة العاشرة

              كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر فهو كما أخبر ، وهو حق وصدق ، معتمد عليه فيما أخبر به وعنه ، سواء علينا أنبنى عليه في التكليف حكم أم لا كما أنه إذا شرع حكما أو أمر أو نهى ; فهو كما قال عليه الصلاة والسلام ، لا يفرق في ذلك بين ما أخبره به الملك عن الله ، وبين ما نفث في روعه وألقي في نفسه ، أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة ، أو كيف ما كان ; فذلك معتبر يحتج به ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعا ; لأنه صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة ، وما ينطق عن الهوى [ ص: 465 ] وهذا مبين في علم الكلام ; فلا نطول بالاحتجاج عليه ، ولكنا نمثله ثم نبني عليه ما أردنا بحول الله .

              فمثاله قوله عليه الصلاة والسلام : إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ; فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ; فهذا بناء حكم على ما ألقي في النفس [ ص: 466 ] وقال عليه الصلاة والسلام : أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها ; فالتمسوها في العشر الغوابر .

              وفي حديث آخر : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ; فهذا بناء من النبي صلى الله عليه وسلم على رؤيا [ ص: 467 ] النوم ونحو ذلك وقع في بدء الأذان ، وهو أبلغ في المسألة عن عبد الله بن زيد قال : لما أصبحنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الرؤيا ; فقال : إن هذه لرؤيا حق الحديث ، إلى أن قال عمر بن الخطاب : والذي بعثك بالحق ; لقد رأيت مثل الذي رأى قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد ; فذاك أثبت [ ص: 468 ] فحكم عليه الصلاة والسلام على الرؤيا بأنها حق وبنى عليها الحكم في ألفاظ الأذان .

              وفي الصحيح صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ثم انصرف ; فقال : يا فلان ألا تحسن صلاتك ؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي ; فإنما يصلي لنفسه ؟ إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي فهذا حكم أمري بناء على الكشف ، ومن تتبع الأحاديث وجد أكثر من هذا [ ص: 469 ] فإذا تقرر هذا ; فلقائل أن يقول : قد مر قبل هذا في كتاب المقاصد قاعدة بينت أن ما يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصنا ، وما يعمه يعمنا ، فإذا بنينا على ذلك ; فلكل من كان من أهل الكشف والاطلاع أن يحكم بمقتضى اطلاعه وكشفه ، ألا ترى إلى قضية أبي بكر الصديق مع بنته عائشة فيما نحلها إياه ثم مرض قبل أن تقبضه ، قال فيه : وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله قالت : فقلت يا أبت ! والله لو كان كذا وكذا لتركته ، إنما هي أسماء ; فمن الأخرى ؟ قال : ذو بطن بنت خارجة أراها جارية ، وقضية عمر بن الخطاب في ندائه سارية وهو على المنبر ; فبنوا كما ترى على الكشف والاطلاع المعدود من الغيب وهو معتاد في أولياء الله تعالى ، وكتب العلماء [ ص: 470 ] مشحونة بأخبارهم فيه ، فيقتضي ذلك جريان الحكم وراثة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

              والجواب : أن هذا السؤال هو فائدة هذه المسألة ، وبسببه جلبت هذه المقدمة ، وإن كان الكلام المتقدم في كتاب المقاصد كافيا ، ولكن نكتة المسألة هذا تقريرها .

              فاعلم أن النبي مؤيد بالعصمة معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال ، وصحة ما بين ، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصوما بلا خلاف ; إما بأنه لا يخطئ ألبتة ، وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض ; فما ظنك بغير ذلك ؟ فكل ما حكم به أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم أو رؤية كشف مثل : ما حكم به مما ألقى إليه الملك عن الله عز وجل ، وأما أمته فكل واحد منهم غير معصوم بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان ، ويجوز أن تكون رؤياه حلما ، وكشفه غير حقيقي وإن تبين في الوجود صدقه ، واعتيد ذلك فيه واطرد ; فإمكان الخطأ والوهم باق ، وما كان هذا شأنه لم يصح أن يقطع به حكم [ ص: 471 ] وأيضا ; فإن كان مثل هذا معدودا في الاطلاع الغيبي ; فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، كما في الحديث من قوله عليه السلام في خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم تلا : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام [ لقمان : 34 ] إلى آخر السورة ، وقال في الآية الأخرى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ الأنعام : 59 ] واستثنى المرسلين في الآية الأخرى بقوله : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ الجن : 26 ، 27 ] فبقي من عداهم على الحكم الأول ، وهو امتناع علمه وقال تعالى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية [ آل عمران : 179 ] وقال : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ النمل : 65 ] وفي حديث عائشة : ومن زعم أن محمدا يعلم ما في غد ; فقد أعظم الفرية على الله [ ص: 472 ] وقد تعاضدت الآيات والأخبار وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله ، وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر ، حسبما مر في باب العموم من هذا الكتاب ، فإذا كان كذلك ; خرج من سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء صلوات الله عليهم في العلم بالمغيبات .

              وما ذكر قبل عن الصحابة أو ما يذكر عنهم بسند صحيح ; فمما لا ينبني عليه حكم ، إذ لم يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوعه على حسب ما أخبروه هو مما يظن بهم ، ولكنهم لا يعاملون أنفسهم إلا بأمر مشترك لجميع الأمة ، وهو جواز الخطأ ، لذلك قال أبو بكر : أراها جارية ; فأتى بعبارة الظن التي لا تفيد حكما ، وعبارة يا سارية ! الجبل مع أنها إن صحت لا تفيد حكما شرعيا ، هي أيضا لا تفيد أن كل ما سواها مثلها ، وإن سلم ; فلخاصية أن الشيطان كان يفر منه ; فلا يطور حول حمى أحواله التي أكرمه الله بها [ ص: 473 ] بخلاف غيره ، فإذا لاح لأحد من أولياء الله شيء من أحوال الغيب ; فلا يكون على علم منها محقق لا شك فيه ، بل على الحال التي يقال فيها : أرى و أظن ، فإذا وقع مطابقا في الوجود ، وفرض تحققه بجهة المطابقة أولا ، والاطراد ثانيا ; فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكم لأنه صار من باب الحكم على الواقع ; فاستوت الخارقة وغيرها ، نعم تفيد الكرامات والخوارق لأصحابها يقينا وعلما بالله تعالى ، وقوة فيما هم عليه وهو غير ما نحن فيه .

              ولا يقال : إن الظن أيضا معتبر شرعا في الأحكام الشرعية ; كالمستفاد من أخبار الآحاد والقياس وغيرهما ، وما نحن فيه إن سلم أنه لا يفيد علما مع الاطراد والمطابقة ; فإنه يفيد ظنا ، فيكون معتبرا .

              لأنا نقول : ما كان من الظنون معتبرا شرعا ; فلاستناده إلى أصل شرعي [ ص: 474 ] حسبما تقدم في موضعه من هذا الكتاب ، وما نحن فيه لم يستند إلى أصل قطعي ولا ظني ، هذا وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ثبت ذلك بالنسبة إليه ; فلا يثبت بالنسبة إلينا لفقد الشرط وهو العصمة ، وإذا امتنع الشرط امتنع المشروط باتفاق العقلاء .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية