الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  860 25 - حدثنا أحمد قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، أن محمد بن جعفر بن الزبير حدثه عن عروة بن الزبير ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق ، فيخرج منهم العرق ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم ، وهو عندي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة في قوله : " كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي " .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله : وهم سبعة : الأول : أحمد بن صالح ، كذا في رواية أبي ذر ، وبه قال ابن السكن ، وذكر الجياني أن البخاري روى عن أحمد يعني غير مسمى عن ابن وهب في كتاب الصلاة في موضعين .

                                                                                                                                                                                  وقال : حدثنا أحمد حدثنا ابن وهب قال : ونسبه أبو علي بن السكن في نسخته ، فقال : أحمد بن صالح المصري .

                                                                                                                                                                                  وقال الحاكم : روى البخاري في كتاب الصلاة في ثلاثة مواضع عن أحمد عن ابن وهب فقيل : إنه ابن صالح المصري ، وقيل : ابن عيسى التستري ، ولا يخلو أن يكون واحدا منهما ، فقد روى عنهما في ( الجامع ) ، ونسبهما في مواضع ، وذكر أبو نصر الكلاباذي قال : قال لي أبو أحمد يعني الحاكم : أحمد عن ابن وهب في ( الجامع ) هو ابن أخي ابن وهب .

                                                                                                                                                                                  وقال الحاكم أبو عبد الله : من قال هذا فقد وهم وغلط ، دليله أن المشايخ الذين ترك البخاري الرواية عنهم في ( الجامع ) فقد روى عنهم في سائر مصنفاته كابن صالح وغيره ، وليس له عن ابن أخي ابن وهب رواية في موضع ، فهذا يدل على أنه لم يكتب عنه أو كتب عنه ، ثم ترك الرواية عنه أصلا .

                                                                                                                                                                                  وقال الكلاباذي : قال ابن منده : كلما قال البخاري في ( الجامع ) حدثنا أحمد عن ابن وهب فهو ابن صالح ، ولم يخرج عن ابن أخي ابن وهب في ( الصحيح ) ، وإذا حدث عن أحمد بن عيسى نسبه .

                                                                                                                                                                                  الثاني : عبد الله بن وهب المصري ، الثالث : عمرو بن الحارث مر في باب المسح على الخفين ، الرابع : عبيد الله بن أبي جعفر الأموي القرشي ، واسم أبي جعفر يسار أحد أعلام مصر ، مات سنة خمس أو ست وثلاثين ومائة ، الخامس : محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام القرشي ، السادس : عروة بن الزبير بن العوام ، السابع : أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه الإخبار بصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في موضعين ، وفيه أن الأربعة من الرواة مصريون ، وهم : شيخه ، وثلاثة بعده متناسقون ، واثنان بعدهما مدنيان ، وفيه رواية الرجل عن عمه .

                                                                                                                                                                                  ذكر من أخرجه غيره : أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن هارون بن سعيد ، وأحمد بن عيسى كلاهما عن ابن وهب ، وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن صالح عن ابن وهب .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " ينتابون الجمعة " أي : يحضرونها بالنوبة ، وهو من الانتياب من النوبة ، وهو المجيء نوبا [ ص: 198 ] ويروى يتناوبون من النوبة أيضا ، قوله : “ والعوالي " جمع العالية ، وهي مواضع وقرى بقرب مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جهة المشرق من ميلين إلى ثمانية أميال ، وقيل : أدناها من أربعة أميال ، قوله : “ فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار " كذا وقع لأكثر الرواة ، وعند القابسي : " فيأتون في العباء " بفتح العين المهملة ، وبالمد : جمع عباءة وعباية لغتان مشهورتان ، وكذا شرحه النووي في ( شرحه ) ; لأنه عند مسلم كذا هو ، وكذا عند الإسماعيلي وغيرهما ، وهو الصواب .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ إنسان منهم " وفي رواية الإسماعيلي أناس منهم ، قوله : “ لو أنكم تطهرتم " كلمة " لو " تقتضي دخولها على الفعل ، تقديره : لو ثبت تطهركم ، ثم إن لو هذه يجوز أن تكون للتمني ، فلا تحتاج إلى جواب ، ويجوز أن تكون على أصلها ، والجزاء محذوف تقديره لكان حسنا .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : اختلف العلماء في هذا الباب ، أعني في وجوب الجمعة على من كان خارج المصر ، فقالت طائفة : تجب على من آواه الليل إلى أهله ، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس وابن عمر ومعاوية ، وهو قول نافع ، والحسن ، وعكرمة ، والحكم ، والنخعي ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وعطاء ، والأوزاعي ، وأبي ثور ، حكاه ابن المنذر عنهم لحديث أبي هريرة مرفوعا : الجمعة على من آواه الليل إلى أهله ، رواه الترمذي ، والبيهقي ، وضعفاه ، ونقل عن أحمد أنه لم يره شيئا ، وقال لمن ذكره له : استغفر ربك ، استغفر ربك .

                                                                                                                                                                                  ومعنى هذا الحديث أنه إذا جمع مع الإمام أمكنه العود إلى أهله آخر النهار قبل دخول الليل ، وقالت طائفة : إنها تجب على من سمع النداء ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر أيضا ، وحكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق ، وحكاه ابن العربي عن مالك أيضا ، واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، أخرجه أبو داود من رواية سفيان عن محمد بن سعيد ، عن أبي سلمة بن نبيه ، عن عبد الله بن هارون ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الجمعة على من سمع النداء ، قال أبو داود : روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورا على عبد الله بن عمرو ، ولم يرفعوه ، ورواه الدارقطني من رواية الوليد ، عن زهير بن محمد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما الجمعة على من سمع النداء ، والوليد هو ابن مسلم ، وزهير ابن محمد كلاهما من رجال ( الصحيح ) ، لكن زهيرا روى عنه أهل الشام مناكير منهم الوليد ، والوليد مدلس ، وقد رواه بالعنعنة ، فلا تصح ، وقد رواه الدارقطني أيضا من رواية محمد بن الفضل بن عطية عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الجمعة على من يهدئ الصوت ، قال داود بن رشيد : يعني حيث يسمع الصوت ، ومحمد بن الفضل بن عطية ضعيف جدا ، والحجاج هو ابن أرطاة ، وهو مدلس مختلف في الاحتجاج به .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن العربي : الوجوب على من سمع النداء عند الشافعي قال : وتعليقه السعي على سماع النداء يسقطه عمن كان في المصر الكبير إذا لم يسمعه ، وقالت طائفة : يجب على أهل المصر ، ولا يجب على من كان خارج المصر ، سمع النداء أو لم يسمعه ، قال شيخنا في ( شرح الترمذي ) : وهو قول أبي حنيفة بناء على قوله : " إن الجمعة لا تجب على أهل القرى والبوادي ما لم يكن في المصر " ورجحه القاضي أبو بكر بن العربي ، وقال : إن الظاهر مع أبي حنيفة رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                  قلت : مذهب أبي حنيفة أن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع أو في مصلى المصر نحو مصلى العيد ، وفي المفيد والإسبيجابي والتحفة : لا تجب الجمعة عندنا إلا في مصر جامع أو فيما هو في حكمه كمصلى العيد ، وفي ( جوامع الفقه ) : وأرباض المصر كالمصر ، وفي ( الينابيع ) : لو كان منزله خارج المصر لا تجب عليه ، قال : وهذا أصح ما قيل فيه ، وفي ( قاضيخان ) عن أبي يوسف : هو رواية عنه ، وعنه من ثلاثة فراسخ ، وعنه إذا شهد الجمعة ، فإن أمكنه المبيت بأهله لزمته الجمعة ، واختاره كثير من مشايخنا ، وفي ( الذخيرة ) : في ظاهر رواية أصحابنا : لا يجب شهود الجمعة إلا على من يسكن المصر والأرباض دون السواد سواء كان قريبا من مصر أو بعيدا عنها ، وعن محمد : إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة أميال فعليه الجمعة ، وهو قول مالك ، والليث ، وفي ( منية المفتي ) : على أهل السواد الجمعة إذا كانوا على قدر فرسخ هو المختار ، وعنه إذا كان أقل من فرسخين تجب ، وفي الأكثر لا ، وفي رواية : كل موضع لو خرج الإمام إليه صلى الجمعة فتجب ، وعن معاذ بن جبل : يجب الحضور من خمسة عشر فرسخا .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر : يجب عند ابن المنكدر ، وربيعة ، والزهري في رواية : من أربعة أميال ، وعن الزهري : من ستة أميال ، وحكاه ابن التين عن النخعي ، وعن مالك ، والليث : ثلاثة أميال ، وحكى أبو حامد عن عطاء : عشرة أميال .

                                                                                                                                                                                  واختلف أصحاب مالك هل مراعاة [ ص: 199 ] ثلاثة أميال من المنار أو من طرف المدينة ، فالأول قاله القاضي أبو محمد ، والثاني قاله محمد بن عبد الحكم ، وعن حذيفة : ليس على من من على رأس ميل جمعة .

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب التوضيح : في حديث الباب رد لقول الكوفيين : إن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر ; لأن عائشة رضي الله تعالى عنها أخبرت عنهم بفعل دائم أنهم كانوا يتناوبون الجمعة ، فدل على لزومها عليهم . قلت : هذا نقله عن القرطبي ، وهو ليس بصحيح ; لأنه لو كان واجبا على أهل العوالي ما تناوبوا ، ولكانوا يحضرون جميعا .

                                                                                                                                                                                  وفيه من الفوائد : رفق العالم بالمتعلم ، واستحباب التنظيف لمجالسة أهل الخير ، واجتناب أذى المسلم بكل طريق ، وحرص الصحابة على امتثال الأمر ، ولو شق عليهم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية