الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4360 ) مسألة قال : ( وإحياء الأرض أن يحوط عليها حائطا ) ظاهر كلام الخرقي ، أن تحويط الأرض إحياء لها ، سواء أرادها للبناء ، أو للزرع ، أو حظيرة للغنم ، أو الخشب ، أو غير ذلك . ونص عليه أحمد ، في رواية علي بن سعيد ، فقال : الإحياء أن يحوط عليها حائطا ، أو يحفر فيها بئرا أو نهرا . ولا يعتبر في ذلك تسقيف ; وذلك لما روى الحسن ، عن سمرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أحاط حائطا على أرض ، فهي له } . رواه أبو داود ، والإمام أحمد ، في " مسنده " .

                                                                                                                                            ويروى عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . ولأن الحائط حاجز منيع ، فكان إحياء ، أشبه ما لو جعلها حظيرة للغنم . ويبين هذا أن القصد لا اعتبار به ، بدليل ما لو أرادها حظيرة للغنم ، فبناها بجص وآجر ، وقسمها بيوتا ، فإنه يملكها ، وهذا لا يصنع للغنم مثله . ولا بد أن يكون الحائط منيعا يمنع ما وراءه ، ويكون مما جرت العادة بمثله

                                                                                                                                            ويختلف باختلاف البلدان ، فلو كان مما جرت عادتهم بالحجارة وحدها ، كأهل حوران وفلسطين ، أو بالطين ، كالفطائر لأهل غوطة دمشق ، أو بالخشب أو بالقصب ، كأهل الغور ، كان ذلك إحياء . وإن بناه بأرفع مما جرت به عادته ، كان أولى . وقال القاضي : في صفة الإحياء روايتان إحداهما ما ذكرنا . والثانية الإحياء ما تعارفه الناس إحياء ; لأن الشرع ورد بتعليق الملك على الإحياء ، ولم يبينه ، ولا ذكر كيفيته ، فيجب الرجوع فيه إلى ما كان إحياء في العرف .

                                                                                                                                            كما أنه لما ورد باعتبار القبض والحرز ، ولم يبين كيفيته ، كان المرجع فيه إلى العرف ، ولأن الشارع لو علق الحكم على مسمى باسم ، لتعلق بمسماه عند أهل اللسان ، فكذلك يتعلق الحكم بالمسمى إحياء عند أهل العرف ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلق حكما على ما ليس إلى معرفته طريق ، فلما لم يبينه ، تعين العرف طريقا لمعرفته ، إذ ليس له طريق سواه . إذا ثبت هذا ، فإن الأرض تحيي دارا للسكنى ، وحظيرة ، ومزرعة ، فإحياء كل واحدة من ذلك بتهيئتها للانتفاع الذي أريدت له ، فأما الدار ، فبأن يبني حيطانها بما جرت به العادة ويسقفها ، لأنها لا تكون للسكنى إلا بذلك

                                                                                                                                            وأما الحظيرة فإحياؤها بحائط جرت به عادة مثلها ، وليس من شرطها التسقيف ; لأن العادة ذلك من غير تسقيف ; وسواء أرادها حظيرة للماشية ، أو للخشب ، أو للحطب ، أو نحو ذلك . ولو خندق عليها خندقا ، لم يكن إحياء ; لأنه ليس بحائط ولا عمارة ، إنما هو حفر وتخريب . وإن خاطها بشوك وشبهه ، لم يكن إحياء ، وكان تحجرا ; لأن المسافر قد ينزل منزلا ، ويحوط على رحله بنحو من ذلك

                                                                                                                                            ولو نزل منزلا ، فنصب به بيت شعر أو خيمة ، لم يكن إحياء . وإن أرادها للزراعة ، فبأن يهيئها لإمكان الزرع فيها ، فإن كانت لا تزرع إلا بالماء ، فبأن يسوق إليها ماء من نهر أو بئر ، وإن كانت مما لا يمكن زرعها لكثرة أحجارها ، كأرض [ ص: 345 ] الحجاز ، فبأن يقلع أحجارها وينقيها حتى تصلح للزرع ، وإن كانت غياضا وأشجارا ، كأرض الشعرى ، فبأن يقلع أشجارها ، ويزيل عروقها التي تمنع الزرع

                                                                                                                                            وإن كانت مما لا يمكن زرعه إلا بحبس الماء عنها ، كأرض البطائح التي يفسدها غرقها بالماء لكثرته ، فإحياؤها بسد الماء عنها ، وجعلها بحال يمكن زرعها ; لأن بذلك يمكن الانتفاع بها فيما أرادها من غير حاجة إلى تكرار ذلك في كل عام ، فكان إحياء ، كسوق الماء إلى الأرض التي لا ماء لها ولا يعتبر في إحياء الأرض حرثها ولا زرعها ; لأن ذلك مما يتكرر كلما أراد الانتفاع بها ، فلم يعتبر في الإحياء ، كسقيها ، وكالسكنى في البيوت ، ولا يحصل بذلك إذا فعله لمجرده ، لما ذكرنا

                                                                                                                                            ولا يعتبر في إحياء الأرض للسكنى نصب الأبواب على البيوت . وبهذا قال الشافعي ، فيما ذكرنا في الرواية الثانية ، إلا أن له وجها في أن حرثها وزرعها إحياء لها ، وأن ذلك معتبر في إحيائها ، ولا يتم بدونه ، وكذلك نصب الأبواب على البيوت ; لأنه مما جرت العادة به ، فأشبه التسقيف . ولا يصح هذا ; لما ذكرنا ، ولأن السكنى ممكنة بدون نصب الأبواب ، فأشبه تطيين سطوحها وتبييضها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية