الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الدلالة على تحريم الحيل ]

قال الخطابي : في هذا في الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل إلى المحرم ; فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه .

قال شيخنا رضي الله عنه : ووجه الدلالة ما أشار إليه أحمد أن اليهود لما حرم الله [ ص: 92 ] عليهم الشحوم أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها على وجه لا يقال في الظاهر إنهم انتفعوا بالشحم فجملوه وقصدوا بذلك أن يزول عنه اسم الشحم ، ثم انتفعوا بثمنه بعد ذلك لئلا يكون الانتفاع في الظاهر بعين المحرم ، ثم مع كونهم احتالوا بحيلة خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الاستحلال ، نظرا إلى المقصود ، وأن حكمة التحريم لا تختلف سواء كان جامدا أو مائعا ، وبدل الشيء يقوم مقامه ويسد مسده ، فإذا حرم الله الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة ، وأما ما أبيح الانتفاع به من وجه دون وجه كالخمر مثلا فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر المباحة لا لمنفعة اللحم المحرمة ، وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره { لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه } يعني ثمنه المقابل لمنفعة الأكل ، فإذا كان فيه منفعة أخرى وكان الثمن في مقابلتها لم يدخل في هذا .

إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقا بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته لم يستحقوا اللعنة لوجهين : أحدهما : أن الشحم خرج بجمله عن أن يكون شحما ، وصار ودكا ، كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعا عند من يستحل ذلك ; فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال ، ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما ، وإنما هي كما قال فقيه الأمة دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة ; فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة ، لا في شرع ولا في عقل ولا عرف ، بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها ، فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص ; فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله ويوعده أشد الوعيد ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله . هذا لا يأتي به شرع ; فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه

فيا لله العجب ، أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتيال والخداع ؟ فهل صار هذا الذنب العظيم عند الله هو من أكبر الكبائر حسنة وطاعة بالخداع والاحتيال ؟ ويا لله ، كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث إلى الطيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوبا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطا له ؟ ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ [ ص: 93 ] فإنه عند الله ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عراه وأجل أصوله .

ويا لله العجب ، كيف تزول مفسدة التحليل الذي أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعن فاعله مرة بعد أخرى بتسبيق شرطه وتقديمه على صلب العقد وخلاء صلب العقد من لفظه وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه ؟ وأي غرض للشارع ؟ وأي حكمة في تقديم الشرط وتسبيقه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرة هذا العقد خلا ؟ وهل كان عقد التحليل مسخوطا لله ورسوله لحقيقته ومعناه ، أم لعدم مقارنة الشرط له وحصول صورة نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول حقيقة نكاح التحليل ؟ وهكذا الحيل الربوية ; فإن الربا لم يكن حراما لصورته ولفظه ، وإنما كان حراما لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع ; فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت وبأي لفظ عبر عنها ; فليس الشأن في الأسماء وصور العقود ، وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له .

الوجه الثاني : أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم ، وإنما انتفعوا بثمنه ، ويلزم من راعى الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك ، فلما لعنوا على استحلال الثمن - وإن لم ينص لهم على تحريمه - علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة ، ونظير هذا أن يقال لرجل : لا تقرب مال اليتيم ، فيبيعه ويأخذ عوضه ويقول : لم أقرب ماله ، وكمن يقول لرجل : لا تشرب من هذا النهر ، فيأخذ بيديه ويشرب بكفيه ويقول : لم أشرب منه ، وبمنزلة من يقول : لا تضرب زيدا ، فيضربه فوق ثيابه ويقول : إنما ضربت ثيابه ، وبمنزلة من يقول : لا تأكل مال هذا الرجل فإنه حرام ، فيشتري به سلعة ولا يعينه ثم ينقده للبائع ويقول : لم آكل ماله إنما أكلت ما اشتريته وقد ملكت ظاهرا وباطنا ، وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم ، ولو استعملها المريض كان مرتكبا لنفس ما نهاه عنه الطبيب ، كمن يقول له الطبيب : لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض ، فيدقه ويعمل منه هريسة ويقول : لم آكل اللحم ، وهذا المثال مطابق لعامة الحيل الباطلة في الدين .

ويا لله العجب ، أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين درهما صريحا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلا بل دخولها كخروجها ؟ ولهذا لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك ألبتة حتى لو كانت خرقة مقطعة أو أذن شاة أو عودا من حطب أدخلوه محللا للربا ، ولما تفطن المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر ، [ ص: 94 ] وأنها ليست مقصودة بوجه ، وأن دخولها كخروجها - تهاونوا بها ، ولم يبالوا بكونها مما يتمول عادة أو لا يتمول ، ولم يبال بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة ، بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة ، وكل هذا وقع من أرباب الحيل ، وهذا لما علموا أن المشتري لا غرض له في السلعة فقالوا : أي سلعة اتفق حضورها حصل بهذا التحليل ، كأي تيس اتفق في باب محلل النكاح .

[ مثل من وقف مع الظواهر ]

وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له : لا تسلم على صاحب بدعة ، فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه ، أو قيل له : اذهب فاملأ هذه الجرة ، فذهب فملأها ثم تركها على الحوض وقال : لم تقل ايتني بها ، وكمن قال لوكيله : بع هذه السلعة ، فباعها بدرهم وهي تساوي مائة ، ويلزم من وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع ويلزم به الموكل ، وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضع . وكمن أعطاه رجل ثوبا فقال : والله لا ألبسه لما [ له ] فيه من المنة ، فباعه وأعطاه ثمنه فقبله ، وكمن قال : والله لا أشرب هذا الشراب ، فجعله عقيدا أو ثرد فيه خبزا وأكله ، ويلزم من وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد من فعل ذلك بالخمر ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن من الأمة من يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال : { ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ، يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات ، يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم القردة والخنازير } رواه أحمد وأبو داود .

وفي مسند الإمام أحمد مرفوعا { يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها } وفيه عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم { يشرب ناس من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه } وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي أمامة يرفعه { لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها } قال شيخنا رضي الله عنه : وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعا وموقوفا من حديث ابن عباس { يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء : يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه ، والسحت بالهدية ، والقتل بالرهبة ، والزنا بالنكاح ، والربا بالبيع } وهذا حق ; فإن استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا ، ومعلوم أن الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه ، فهب أن المرابي لم يسمه ربا وسماه بيعا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها ، وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحل من استحل المسكر من غير عصير العنب وقال : لا أسميه خمرا وإنما هو نبيذ ، وكما يستحلها طائفة من المجان إذا مزجت ويقولون : خرجت عن اسم [ ص: 95 ] الخمر ، كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق ، وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيدا ويقول : هذه عقيد لا خمر ، ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة ; فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة لا تزول بتبديل الأسماء والصور عن ذلك ، وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن الله ورسوله ؟ وأما استحلال السحت باسم الهدية وهو أظهر من أن يذكر - كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما ، فإن المرتشي ملعون هو والراشي ; لما في ذلك من المفسدة ، ومعلوم قطعا أنهما لا يخرجان عن الحقيقة وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية ، وقد علمنا وعلم الله وملائكته ومن له اطلاع إلى الحيل أنها رشوة . وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسا وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر . وأما استحلال الزنا باسم النكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غرض له أن يقيم معها ولا أن تكون زوجته ، وإنما غرضه أن يقضي منها وطره أو يأخذ جعلا على الفساد بها ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته ، وقد علم الله ورسوله والملائكة والزوج والمرأة أنه محلل لا ناكح ، وأنه ليس بزوج ، وإنما هو تيس مستعار للضراب بمنزلة حمار العشريين .

فيا لله العجب ، أي فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا ؟ نعم هذا زنا بشهود من البشر وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبين كما صرح به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله أنه إنما يريد أن يحللها ، والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل له : هذا زنا ، قال : ليس بزنا بل نكاح ، كما أن المرابي إذا قيل له : هذا ربا ، قال : بل هو بيع ، وكذلك كل من استحل محرما بتغيير اسمه وصورته كمن يستحل الحشيشة باسم لقيمة الراحة ، ويستحل المعازف كالطنبور والعود والبربط باسم يسميها به ، وكما يسمي بعضهم المغني بالحادي والمطرب والقوال ، وكما يسمي الديوث بالمصلح والموفق والمحسن ، ورأيت من يسجد لغير الله من الأحياء والأموات ويسمي ذلك وضع الرأس للشيخ ; قال : ولا أقول هذا سجود ، وهكذا الحيل سواء ; فإن أصحابها يعمدون إلى الأحكام فيعلقونها بمجرد اللفظ ، ويزعمون أن الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم ، مع القطع بأن معناه معنى الشيء المحرم ; فإن الرجل إذا قال لمن له عليه ألف : اجعلها ألفا ومائة إلى سنة بإدخال هذه الخرقة وإخراجها صورة لا معنى ، لم يكن فرق بين توسطها وعدمه ، وكذلك إذا قال : مكنيني من نفسك أقض منك وطرا يوما أو ساعة بكذا وكذا ، لم يكن فرق بين إدخال شاهدين في هذا أو عدم إدخالهما وقد تواطئا على قضاء وطر ساعة من زمان . [ ص: 96 ]

[ ذكر أسماء ما أنزل الله بها من سلطان ] :

ولو أوجب تبديل الأسماء والصور تبدل الأحكام والحقائق لفسدت الديانات ، وبدلت الشرائع ، واضمحل الإسلام ، وأي شيء نفع المشركين تسميتهم أصنامهم آلهة وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها ؟ وأي شيء نفعهم تسمية الإشراك بالله تقربا إلى الله ؟ وأي شيء نفع المعطلين لحقائق أسماء الله وصفاته تسمية ذلك تنزيها ؟ وأي شيء نفع الغلاة من البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونها من دون الله تسمية ذلك تعظيما واحتراما ؟ وأي شيء نفع نفاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعات أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلا ؟ وأي شيء نفعهم نفيهم لصفات كماله تسمية ذلك توحيدا ؟ وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن الله لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام ولا يحيي الموتى ولا يبعث من في القبور ولا يعلم شيئا من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلا يأمرونهم بطاعته تسمية ذلك حكمة ؟ وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلا معيشيا وقدحهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويداهن في دين الله ؟ وأي شيء نفع المكسة تسمية ما يأخذونه ظلما وعدوانا حقوقا سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع الله ودينه شرع الديوان ؟ وأي شيء نفع أهل البدع والضلال تسمية شبههم الداحضة عند ربهم وعند أهل العلم والدين والإيمان عقليات وبراهين ؟ وتسمية كثير من المتصوفة الخيالات الفاسدة والشطحات حقائق ؟ فهؤلاء كلهم حقيق أن يتلى عليهم : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } .

التالي السابق


الخدمات العلمية