الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      2198 وصار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ومحمد بن يحيى وهذا حديث أحمد قالا حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا فكلهم قالوا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره قال أبو داود روى مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير بن الأشج عن معاوية بن أبي عياش أنه شهد هذه القصة حين جاء محمد بن إياس بن البكير إلى ابن الزبير وعاصم بن عمر فسألهما عن ذلك فقالا اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة رضي الله عنها ثم ساق هذا الخبر قال أبو داود وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث تبين من زوجها مدخولا بها وغير مدخول بها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره هذا مثل خبر الصرف قال فيه ثم إنه رجع عنه يعني ابن عباس

                                                                      التالي السابق


                                                                      واعلم أن ابن عباس كما كان يفتي بأن الطلاق الثلاث واحدة كذلك كان يفتي به صاحبه عكرمة أيضا ، فحدث أيوب عنه بعض أصحابه فتوى ابن عباس وحدث بعضهم فتواه نفسه ( وصار قول ابن عباس إلى قوله حتى تنكح زوجا غيره ) والحديث سكت عنه المنذري .

                                                                      وغرض المؤلف أن ابن عباس ترك الإفتاء بكون الثلاث واحدة وصار قائلا بأن المرأة لا تحل بعد الثلاث حتى تنكح زوجا غيره ، ولكن قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب قال دخل الحكم بن عيينة على الزهري وأنا معهم فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا فقال سئل عن ذلك ابن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن عمر فكلهم قالوا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، قال فخرج الحكم فأتى طاوسا وهو في المسجد فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها ، وأخبره بقول الزهري قال فرأيت طاوسا رفع يديه تعجبا من ذلك . وقال والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة ( وروى مالك عن يحيى ) : والحديث أخرجه مالك في الموطأ ولفظه مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير بن عبد الله بن الأشج أنه أخبره عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر قال فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان ؟ فقال عبد الله بن الزبير إن هذا الأمر ما بلغ لنا فيه قول ، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما ثم آتنا فأخبرنا فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة ، فقال أبو هريرة الواحدة تبينها [ ص: 219 ] والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره ، وقال ابن عباس مثل ذلك أيضا . قال مالك : وعلى ذلك الأمر عندنا . قال مالك والثيب إذا ملكها الرجل ولم يدخل بها إنها تجري مجرى البكر الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره انتهى .

                                                                      ( قال أبو داود : وقول ابن عباس إلى قوله هذا مثل خبر الصرف قال فيه ثم إنه رجع عنه ) : الصرف بفتح المهملة دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه . قاله الحافظ : والأولى في تعريف الصرف أن يقال هو بيع النقود والأثمان بجنسها .

                                                                      واعلم أن ابن عباس كان يعتقد أولا أنه لا ربا فيما كان يدا بيد وأنه يجوز بيع درهم بدرهمين ودينار بدينارين وصاع تمر بصاعي تمر وكذا الحنطة وسائر الربويات وكان معتمده حديث أسامة بن زيد إنما الربا في النسيئة ثم رجع عن ذلك وقال بتحريم بيع الجنس بعضه ببعض حين بلغه حديث أبي سعيد كما ذكر مسلم في صحيحه .

                                                                      وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي سألت أبا مجلز عن الصرف فقال كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا بعين يدا بيد ، وكان يقول إنما الربا في النسيئة فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث ، وفيه التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدا بيد مثلا بمثل فمن زاد فهو ربا . فقال ابن عباس أستغفر الله وأتوب إليه ، فكان ينهى عنه أشد النهي .

                                                                      فإذا عرفت هذا فاعلم أن المؤلف يقول : إن ابن عباس كان يقول أولا بجعل الطلاق الثلاث واحدة ثم رجع عنه . وقال بوقوع [ ص: 220 ] الثلاث كما كان يقول أولا في الصرف من أنه لا ربا إلا في النسيئة ثم رجع عنه وقال بربا الفضل .

                                                                      قلت : رجوعه في مسألة الصرف ببلوغ حديث أبي سعيد واستغفاره عما أفتى أولا ونهيه عنه أشد النهي ظاهرة لا سترة فيه ، وأما رجوعه في مسألة الطلاق ففيه خفاء ، كيف ولم يثبت لا بسند صحيح ولا ضعيف أنه بلغه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لروايته الآتية موجبة لرجوعه عنها ، وكذا لم يرد في شيء من الروايات أنه استغفر عن جعل الثلاث واحدة أو نهى عنه أحدا وأمر الطلاق أشد من أمر الربا . وإفتاؤه بخلاف روايته لا يستلزم على وجود ناسخ لروايته . وسيأتي وجه وجيه لإفتائه بوقوع الثلاث في كلام الإمام ابن القيم إن شاء الله تعالى .




                                                                      الخدمات العلمية