الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين ( 87 ) )

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : ( ويوم ينفخ في الصور ) وقد ذكرنا اختلافهم فيما مضى ، وبينا الصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده ، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم يذكر هناك من الأخبار ، فقال بعضهم : هو قرن ينفخ فيه .

ذكر بعض من لم يذكر فيما مضى قبل من الخبر عن ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( ويوم ينفخ في الصور ) قال كهيئة البوق .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الصور : البوق قال : هو البوق صاحبه آخذ به يقبض قبضتين بكفيه على طرف القرن ، بين طرفه وبين فيه قدر قبضة أو نحوها ، قد برك على ركبة إحدى رجليه ، فأشار ، فبرك على ركبة يساره مقعيا على قدمها ، عقبها تحت فخذه وأليته ، وأطراف أصابعها في التراب .

قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : الصور كهيئة القرن قد رفع إحدى ركبتيه إلى السماء ، وخفض الأخرى ، لم يلق جفون عينه على غمض منذ خلق الله السماوات مستعدا مستجدا ، قد وضع الصور على فيه ينتظر متى يؤمر أن ينفخ فيه .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع [ ص: 503 ] المدني ، عن يزيد بن زياد - قال أبو جعفر : والصواب : يزيد بن أبي زياد - عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة : أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ما الصور ؟ قال : " قرن " ، قال : وكيف هو ؟ قال : " قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : الأولى : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة القيام لله رب العالمين ، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فينفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات وأهل الأرض ، إلا من شاء الله ، ويأمره الله فيمد بها ويطولها ، فلا يفتر ، وهي التي يقول الله : ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ) فيسير الله الجبال ، فتكون سرابا ، وترج الأرض بأهلها رجا ، وهي التي يقول الله : ( يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة ) فتكون الأرض كالسفينة الموثقة في البحر ، تضربها الأمواج ، تكفأ بأهلها ، أو كالقنديل المعلق بالوتر ، ترجحه الأرياح ، فتميد الناس على ظهرها ، فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة ، حتى تأتي الأقطار ، فتتلقاها الملائكة ، فتضرب وجوهها ، فترجع ، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله : ( يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ) فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر ، فرأوا أمرا عظيما ، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ، ثم نظروا إلى السماء ، فإذا هي كالمهل ، ثم خسف شمسها وقمرها ، وانتثرت نجومها ، ثم كشطت عنهم " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك ، فقال أبو هريرة : يا رسول الله ، فمن استثنى الله حين يقول : ( ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) قال : " أولئك الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه " .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا إسماعيل بن رافع ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تبارك وتعالى لما فرغ من السماوات والأرض ، خلق الصور فأعطاه ملكا ، فهو واضعه على فيه ، شاخص ببصره إلى العرش ، ينتظر متى يؤمر " . قال : قلت : يا رسول الله ، وما [ ص: 504 ] الصور ؟ قال : " قرن " ، قلت : فكيف هو ؟ قال : " عظيم ، والذي نفسي بيده ، إن عظم دائرة فيه ، لكعرض السماوات والأرض ، يأمره فينفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله " ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث أبي كريب عن المحاربي ، غير أنه قال في حديثه " كالسفينة المرفأة في البحر " .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ونفخ في صور الخلق .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ويوم ينفخ في الصور ) أي في الخلق . قوله : ( ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) يقول : ففزع من في السماوات من الملائكة ومن في الأرض من الجن والإنس والشياطين ، من هول ما يعاينون ذلك اليوم .

فإن قال قائل : وكيف قيل : ( ففزع ) ، فجعل فزع وهي فعل مردودة على ينفخ ، وهي يفعل ؟ قيل : العرب تفعل ذلك في المواضع التي تصلح فيها إذا ، لأن إذا يصلح معها فعل ويفعل ، كقولك : أزورك إذا زرتني ، وأزورك إذا تزورني ، فإذا وضع مكان إذا يوم أجري مجرى إذا . فإن قيل : فأين جواب قوله : ( ويوم ينفخ في الصور ففزع ) ؟ قيل : جائز أن يكون مضمرا مع الواو ، كأنه قيل : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ، وذلك يوم ينفخ في الصور . وجائز أن يكون متروكا اكتفي بدلالة الكلام عليه منه ، كما قيل : ( ولو يرى الذين ظلموا ) فترك جوابه .

وقوله : ( إلا من شاء الله ) قيل : إن الذين استثناهم الله في هذا الموضع من أن ينالهم الفزع يومئذ الشهداء ، وذلك أنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وإن كانوا في عداد الموتى عند أهل الدنيا ، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرناه في الخبر الماضي .

وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام عمن حدثه ، عن أبي هريرة ، أنه قرأ هذه الآية : ( ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) قال : هم الشهداء .

وقوله : ( وكل أتوه داخرين ) يقول : وكل أتوه صاغرين .

وبمثل الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . [ ص: 505 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وكل أتوه داخرين ) يقول : صاغرين .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( وكل أتوه داخرين ) قال : صاغرين .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وكل أتوه داخرين ) قال : الداخر : الصاغر الراغم ، قال : لأن المرء الذي يفزع إذا فزع إنما همته الهرب من الأمر الذي فزع منه ، قال : فلما نفخ في الصور فزعوا ، فلم يكن لهم من الله منجى .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( وكل أتوه داخرين ) فقرأته عامة قراء الأمصار : " وكل آتوه " بمد الألف من أتوه على مثال فاعلوه سوى ابن مسعود ، فإنه قرأه : " وكل أتوه " على مثال فعلوه ، واتبعه على القراءة به المتأخرون الأعمش وحمزة ، واعتل الذين قرءوا ذلك على مثال فاعلوه بإجماع القراء على قوله : ( وكلهم آتيه ) قالوا : فكذلك قوله : " آتوه " في الجمع . وأما الذين قرءوا على قراءة عبد الله ، فإنهم ردوه على قوله : ( ففزع ) كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض ، وأتوه كلهم داخرين ، كما يقال في الكلام : رأى وفر وعاد وهو صاغر .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، ومتقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية