الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

قال بعض العلماء: هذه ناسخة لقوله: أو أعرض عنهم ؛ وقد تقدم ذكر ذلك.

وقال الجمهور: إنه ليس بنسخ؛ وإن المعنى: "فإن اخترت أن تحكم فاحكم بينهم بما أنزل الله ".

ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم؛ أي: شهواتهم؛ وإرادتهم التي هي هوى ورسول للنفس؛ والنفس أمارة بالسوء؛ فهواها مرد لا محالة؛ وحسن هنا دخول "عن"؛ في قوله: عما جاءك من الحق ؛ لما كان الكلام بمعنى: "لا تنصرف؛ أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك".

واختلف المتأولون في معنى قوله - عز وجل -: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -؛ وقتادة ؛ وجمهور المتكلمين: المعنى: لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجا؛ أي: لليهود شرعة ومنهاج؛ وللنصارى كذلك؛ وللمسلمين كذلك.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا عندهم في الأحكام؛ وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم؛ توحيد وإيمان بالبعث؛ وتصديق للرسل؛ وقد ذكر الله تعالى في كتابه عددا من الأنبياء؛ شرائعهم مختلفة؛ ثم قال لنبيه - صلى اللـه عليه وسلم -: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ؛ فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط؛ وأما في الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا .

[ ص: 185 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والتأويل الأول عليه الناس؛ ويحتمل أن يكون المراد بقوله: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ؛ الأمم؛ كما قدمنا؛ ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء؛ لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم؛ وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيها لمحمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ أي: فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود؛ وغيرهم في شيء منه.

والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان؛ بمعنى واحد؛ وذلك أن الشرعة والشريعة هي: الطريق إلى الماء؛ وغيره مما يورد كثيرا؛ فمن ذلك قول الشاعر:


وفي الشرائع من جلان مقتنص ... بالي الثياب خفي الصوت مندوب



أراد: في الطرق إلى الماء؛ ومنه: الشارع؛ وهي سكك المدن؛ ومنه قول الناس: "وفيها يشرع الباب"؛ والمنهاج أيضا: الطريق؛ ومنه قول الشاعر:


من يك في شك فهذا نهج ...     ماء رواء وطريق نهج



أراد: واضحا؛ والمنهاج بناء مبالغة في ذلك.

وقال ابن عباس ؛ وغيره: شرعة ومنهاجا ؛ معناه: سبيلا؛ وسنة.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة: الأحكام؛ وبالمنهاج: المعتقد؛ أي: وهو واحد في جميعكم؛ وفي هذا الاحتمال بعد.

والقراء على "شرعة"؛ بكسر الشين؛ وقرأ إبراهيم النخعي ؛ ويحيى بن وثاب : "شرعة"؛ بفتح الشين.

ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة؛ ولكنه لم يشأ؛ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب؛ والشرائع؛ كذا قال ابن جريج ؛ وغيره؛ فليس [ ص: 186 ] لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر؛ وهو استباق الخيرات؛ فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم؛ ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد؛ في قوله: إلى الله مرجعكم جميعا ؛ والمعنى: "فالبدار البدار"؛ وقوله تعالى: فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ؛ معناه: "يظهر الثواب والعقاب؛ فتخبرون به إخبار إيقاع"؛ وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذه الآية بارعة الفصاحة؛ جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة؛ وكل كتاب الله تعالى كذلك؛ إلا أنا بقصور أفهامنا يبين في بعض لنا أكثر مما يبين في بعض.

التالي السابق


الخدمات العلمية