الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الثاني : في موجب الضمان .

                                                                                                                ( قاعدة ) : أسباب الضمان في الشريعة ثلاثة : الإتلاف ، أو التسبب للإتلاف ، أو وضع اليد التي ليست مؤمنة كيد الغاصب والمشتري في الخيار ، وإذا اجتمع التسبب والمباشرة غلبت المباشرة إلا أن تكون معمورة كقتل المكره وتقديم السم لإنسان فأكله ، وإذا لم يترتب على السبب مسببه سقط اعتباره ، وعلى هذه القاعدة تخرج فروع هذا الفصل والجنايات والضمانات .

                                                                                                                تفريعات سبعة : الأول في ( الكتاب ) : لا شيء في الصيد إذا جرح وسلم ، وقاله ابن القاسم : ولو زمن ولم يلحق بالصيد ففي ( الجلاب ) : عليه [ ص: 318 ] جزاؤه ، وقاله ( ح ) و ( ش ) فلو رمى على شيئين : قال ابن القاسم في ( الكتاب ) : لا شيء عليه ; لأن الضمان رتبه الله تعالى على القتل وقد سماه كفارة ، والكفارة لا تتبعض على أجزاء المكفر عنه ، قال سند : ، وقال أشهب و ( ش ) : عليه ما نقص بناء على أن الجراحات ، والجوابر تتبعض كقيم المتلفات والمشهور : أنه كفارة لوجوب كفارات عدة على قتلة صيد واحد كالشركاء في قتل المسلم ، قال : وعلى هذا يخرج إذا من قطع عضوا من أعضائه وسلمت بقيته ، قال ابن الجلاب : لا شيء عليه ، وقيل : عليه بقدر النقص ، وإذا قلنا يضمن ما نقص ففي غير الهدي لتعذر تبعيض الهدي بل يضمن طعاما أو صياما ، وقال ( ش ) : إن نقص عشر قيمته فعليه عشر قيمة شاة ، وهو على أصله في تقويم المثل من النعم لمزيد الإطعام ، وعندنا يقوم الصيد نفسه ، وإن برئ من غير شين فعلى رأي ابن حبيب يطعم ; لأنه قال : يطعم إذا نتف ريش طائر أو مسكه حتى تنسل ، وعلى قول مالك في الطائر إذا نتف ريشه بحبسه حتى ينسل : يحبس الصيد ههنا إذا كان الجرح مخوفا ، وليس هو مثل الصيد الممنوع ; لأن هذا إمساك حفظ لا إمساك تملك ، وإن أرسله والجرح عظيم ، قال في ( الكتاب ) : عليه الجزاء ولم يحدد الجرح ، وقال عبد الملك : إن كان يتيقن موته ضمن ، وإذا قلنا بالجزاء فليؤخره ; لئلا يكفر قبل فوت الصيد ، فإن كفر ثم عطب الصيد فعليه جزاءان ، قال عبد الملك : إلا أن يتيقن أن عطبه من غير الجراحة فإن شك أضافه للجراحة ; لأن الأصل عدم سبب آخر فإن قتله بعد الجراحة أخر ، قال أشهب : الجزاء عليهما ، قال محمد : إن كان في فور واحد بخلاف الإنسان يجهز عليه غير من جرحه ; لأن الصيد لو لم يقتله الثاني لزم الأول الجزاء ، فلو حبسه ليبرأ فحل قبل برئه فعلى رأي أشهب : لا يضمنه ولو ذبحه بعد ذلك ، وقال ابن القاسم : يضمنه إن خاف هلاكه ، ولو جرحه ثم قتله من فوره أو قبل الأمان من الجرح الأول فجزاء واحد ، قال محمد : وإن برئ من الأول فجزاءان .

                                                                                                                الثاني : في ( الكتاب ) : إذا تعلق بأطناب فسطاطه صيد فعطب ، أو حفر [ ص: 319 ] بئرا للماء فوقع فيها صيد فعطب فلا جزاء فيه ; لأن ذلك من فعل الصيد ، وفي ( الجلاب ) : عن ابن قاسم عليه الجزاء في الفسطاط ، كما لو جاز الطائر على رمحه المركوز فعطب ، ووجه المذهب : أن هذا لا يضمن دية الآدمي فلا يضمن الصيد ، وإذا أخذ المحرم بيضا فحصنه حتى خرج فراخا وطار فلا شيء عليه فإن جعله مع بيض وحش فنفر الوحش وفسد الجميع ضمن الجميع .

                                                                                                                الثالث : في ( الكتاب ) : إذا رأى الصيد محرما فهرب منه وفزع ومات في هربه فعليه جزاؤه ; لأن رؤيته مكرهة له على الهرب بخلاف حفر البئر . قال ابن القاسم : ولو نصب شركا ليصيد به ما يفترس غنمه فعطب فيه صيد ضمنه كمن حفر بئرا للسارق فعطب فيها غير السارق وداه ، قال ابن يونس : قال ابن سحنون : لا شيء عليه ; لأن العطب من قتل الصيد .

                                                                                                                الرابع : في ( الكتاب ) : إذا أمر المحرم عبده بإرسال صيد كان معه ، فظن العبد أنه أمره بذبحه فذبحه ، قال ابن القاسم : على السيد جزاؤه ; لأنه عطب تحت يده ، ولو أمره فأطاعه في الذبح فعليهما جميعا الجزاء ، وإن دل محرم محرما أو حلالا على صيد فقتله فليستغفر الدال الله ولا شيء عليه ، وكذلك إن أشار إليه أو أمره إلا أن يكون المأمور عبده فعليه الجزاء ، وعلى العبد جزاء آخر إن كان محرما ، وقاله ( ش ) ، وقال ( ح ) على الدال جزاء ، وعلى المدلول آخر إن كان محرما ، وإلا فعلى الدال فقط ، وقال ابن حنبل : عليهما جزاء واحد إن كانا محرمين أو على المحرم منهما ، قال ابن يونس ، وقال أشهب : إن كانا محرمين فعلى كل واحد منهما جزاء ; لأنه أمر أمرا محرما والمدلول حلالا فلا شيء على الدال ; لأنه لم يأمر المحرم ، قال سند : وروي عن أشهب الفدية ، وإن كان المدلول حلالا ، وإذا قلنا : لا جزاء عليه فلا يأكل منه ، فإن فعل فعليه الجزاء ، قال عبد الوهاب : لما في [ ص: 320 ] الصحيحين في حديث أبي قتادة ، قال عليه السلام : ( ما منكم أحد أمره ؟ ) وأشار إليه ، وفي ( الجواهر ) : لو دل على صيد عصى ولا جزاء عليه ، وقيل : عليه ، وقيل : يختص بدلالة المحرم دون الحلال ، وقيل : بالعكس .

                                                                                                                الخامس : في ( الكتاب ) : وإذا اجتمع محرمون على قتل صيد ، أو مخلوق على قتل صيد في الحرم ، أو محل وحرام فقتلا في الحرم فعلى كل واحد جزاء كامل ، وقاله ( ح ) ، وقال ( ش ) : على الجميع جزاء واحد ، والخلاف ينبني على أنه كفارة أو قيمة ، وقد تقدم تقريره ، وإذا جرح محرم صيدا فغاب عنه فعليه جزاؤه ، قال ابن القاسم : قال مالك : إذا جرح محرم صيدا فغاب عنه فعليه جزاؤه ، قال سند : يريد أن مالكا أوجب الجزاء بمجرد الجرح وكل واحد منهم جارح ، قال : وإذا أمسك محرم صيد البر لمثله فقتله حرام فعلى القاتل جزاؤه ، أو حلال فعلى الممسك جزاؤه ، وإن أمسكه لمن يقتله فقتله محرم فعليهما جزاءان ، أو حلال فعلى المحرم جزاؤه وحده ، قال سند : إن أراد إرساله فقتله حلال وكان ملك المحرم على الصيد متقدما فيختلف في ضمانه لربه بقيمته ، فروى ابن القاسم فيمن أحرم ، وبيده صيد فأرسل فلا ضمان عليه ، وروى أشهب يضمنه بقيمته ، ومنشأ الخلاف أن الإحرام هل يزيل الملك وهو مذهب ابن القاسم أو لا يزيل ، وإنما عليه الإرسال وهو مذهب الأبهري ؟ ويتخرج القتل على هذه القاعدة ، ولو أمسكه ولم يرد إرساله ولا قتله فقتله محرم فعليه جزاؤه دون الماسك ; لأنه لم يقصد [ ص: 321 ] إتلافه ، وجعل بعض الشافعية الجزاء عليهما ، وهو باطل كمن أمسك إنسانا بقصد القتل فقتله آخر فلا شيء على الممسك إجماعا ، وأما لو قتله حلال فالجزاء على ربه ; لأنه بإمساكه قتل ، والآخر مأذون له .

                                                                                                                السادس : في ( الكتاب ) : ما صاده في إحرامه أرسله فإن أرسله آخر من يده لم يضمنه ، وإن نازعه محرم فقتلاه فعلى كل واحد منهما الجزاء ، وإن نازعه حلال فلا شيء على الحلال ولا يضمن له هو شيئا ، قال سند : وكما يحرم الاصطياد يحرم ابتياعه بحضرته . وقبول هبته ففي ( الموطأ ) : أن رجلا أهدى له - عليه السلام - حمار وحش وهو بالأبواء أو بودان فرده ، قال الرجل : فلما رأى ما في وجهي قال : ( إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ) فإن ابتاعه ففي ( الموازية ) : عليه إرساله ، قال ابن حبيب : فإن رده على بائعه فعليه جزاؤه ، وقال في ( الموازية ) : أيضا يرده على البائع ويلزمه القبول ; لأنه بيع فاسد لم يفت ( جزاء البيع قبل حرام ) ، فلو ابتاعه بالخيار وهما حلالان ثم أحرما فإن اختار المبتاع البيع غرم الثمن وأطلق الصيد ، وإن رده فلا ثمن عليه ويطلق على البائع ، فلو تأخر البيع قبل الإحرام ، ثم أحرم البائع وفلس المبتاع فله أخذه وإرساله ، أو يتبع المبتاع بثمنه ، وقال الشافعية : ليس له الرجوع فيه ; لأنه ممنوع من تملك الصيد وهذه جهة من جهات التملك ، وما قلناه أبين ; لأنه يختاره من بيعه الماضي وهو صحيح ، ولو ابتاع به سلعة قبل الإحرام فوجد بها عيبا بعده فردها ما لم يلزم البائع غرم الثمن [ ص: 322 ] مع وجوده ، وله رده عليه ، وكذلك لو كان العيب بالصيد بقي على ملكه ، أو تحصن به ملكه وأرسل عليه ، قال أشهب : وإذا صاد المحرم صيدا فقتله في يده حلال في الحرم ، فعلى كل واحد منهما جزاء ويغرم الحلال قيمته للمحرم كان القاتل حرا أو عبدا أو صبيا أو كافرا ، غير أن الكافر لا جزاء عليه ، قال : وظاهر هذا الكلام أنه أثبت ملكه عليه بالاصطياد ، وإنما يجب إرساله عليه لينجو الصيد بنفسه فإذا قتله فقد أبطل ملكه بغير الوجه الذي وجب إرساله ، وخالفه ابن القاسم في تضمين الحلال القيمة ، ولو أرسله المحرم فأخذه حلال فليس للمحرم أخذه منه بعد إحلاله ، قاله ابن القاسم وأشهب .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية