الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

[ ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة ]

وقد ظهر بهذا أن ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة الله ورسوله ، ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم ، بل يجري عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه ، ويجري أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم ، فأحكام الدنيا على الإسلام ، وأحكام الآخرة على الإيمان ، ولهذا قبل إسلام الأعراب ، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، وأخبر أنه لا ينقصهم مع ذلك من ثواب طاعتهم لله ورسوله شيئا ، وقبل إسلام المنافقين ظاهرا ، وأخبر أنه لا ينفعهم يوم القيامة شيئا ، وأنهم في الدرك الأسفل من النار .

فأحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر للعباد ، ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه كما تقدم تفصيله ، وأما قصة الملاعن فالنبي صلى الله عليه وسلم { إنما قال بعد أن ولدت الغلام على شبه الذي رميت به لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن } فهذا - والله أعلم - إنما أراد به لولا حكم الله بينهما باللعان لكان أشبه الولد بمن رميت به يقتضي حكما آخر غيره ، ولكن حكم الله باللعان ألغى حكم هذا الشبه ، فإنهما دليلان وأحدهما أقوى من [ ص: 103 ] الآخر ; فكان العمل به واجبا ، وهذا كما لو تعارض دليل الفراش ودليل الشبه ، فإنا نعمل دليل الفراش ولا نلتفت إلى الشبه بالنص والإجماع ، فأين في هذا ما يبطل المقاصد والنيات والقرائن التي لا معارض لها ؟ وهل يلزم من بطلان الحكم بقرينة قد عارضها ما هو أقوى منها بطلان الحكم بجميع القرائن ؟ وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام

وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعا غير هذا ، وهذا شأن عامة المتداعين ، لا بد أن يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا ، وينفذ حكم الله عليهما تارة بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل ، وتارة بغير ذلك إذا لم يكن مع المحق دليل .

وأما حديث ركانة لما طلق امرأته ألبتة وأحلفه النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما أراد واحدة فمن أعظم الأدلة على صحة هذه القاعدة ، وأن الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإن خالفت ظواهر ألفاظهم ; فإن لفظ ألبتة يقتضي أنها قد بانت منه وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح ، وأنه لم يبق له عليها رجعة ، بل بانت منه ألبتة كما يدل عليه لفظ ألبتة لغة وعرفا ، ومع هذا فردها عليه ، وقبل قوله أنها واحدة مع مخالفة الظواهر اعتمادا على قصده ونيته ، فلولا اعتبار القصود في العقود لما نفعه قصده الذي يخالف ظاهر لفظه مخالفة ظاهرة بينة ; فهذا الحديث أصل لهذه القاعدة ، وقد قبل منه في الحكم ، ودينه فيما بينه وبين الله ، فلم يقض عليه بما أظهر من لفظه لما أخبره بأن نيته وقصده كان خلاف ذلك .

وأما قوله : " إن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل في حكم الدنيا استعمال الدلالة التي لا يوجد أقوى منها " يعني دلالة الشبه فإنما أبطلها بدلالة أقوى منها وهي اللعان ، كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش ، واعتبرها حيث لم يعارضها مثلها ولا أقوى منها في إلحاق الولد بالقافة وهي دلالة الشبه ، فأين في هذا إلغاء الدلالات والقرائن مطلقا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية