الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 659 ] وسئل عن الرهبان الذين يشاركون الناس في غالب الدنيا : فيتجرون ويتخذون المزارع وأبراج الحمام وغير ذلك من الأمور التي يتخذها سائر الناس فيما هم فيه الآن . وإنما ترهب أحدهم في اللباس وترك النكاح وأكل اللحم والتعبد بالنجاسة ونحو ذلك . وقد صار من يريد إسقاط الجزية من النصارى يترهب هذا الترهب لسقوط الجزية عنه ويأخذون من الأموال المحبوسة والمنذورة ما يأخذون . فهل يجوز أخذ الجزية من هؤلاء أم لا ؟ وهل يجوز إسكانهم بلاد المسلمين مع رفع الجزية عنهم أم لا ؟ أفتونا مأجورين .

                التالي السابق


                فأجاب - رضي الله عنه - الحمد لله . الرهبان الذين تنازع العلماء في قتلهم وأخذ الجزية منهم : هم المذكورون في الحديث المأثور عن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان لما بعثه أميرا على فتح الشام فقال له في وصيته : وستجدون أقواما قد حبسوا أنفسهم في الصوامع فذروهم وما حبسوا أنفسهم له وستجدون أقواما قد [ ص: 660 ] فحصوا عن أوساط رءوسهم فاضربوا ما فحصوا عنه بالسيف وذلك بأن الله يقول : { فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } .

                وإنما نهى عن قتل هؤلاء ; لأنهم قوم منقطعون عن الناس محبوسون في الصوامع يسمى أحدهم حبيسا لا يعاونون أهل دينهم على أمر فيه ضرر على المسلمين أصلا ولا يخالطونهم في دنياهم ; ولكن يكتفي أحدهم بقدر ما يتبلغ به . فتنازع العلماء في قتلهم كتنازعهم في قتل من لا يضر المسلمين لا بيده ولا لسانه ; كالأعمى والزمن والشيخ الكبير ونحوه ; كالنساء والصبيان .

                فالجمهور يقولون : لا يقتل إلا من كان من المعاونين لهم على القتال في الجملة وإلا كان كالنساء والصبيان . ومنهم من يقول : بل مجرد الكفر هو المبيح للقتل وإنما استثنى النساء والصبيان ; لأنهم أموال . وعلى هذا الأصل ينبني أخذ الجزية .

                وأما الراهب الذي يعاون أهل دينه بيده ولسانه : مثل أن يكون له رأي يرجعون إليه في القتال أو نوع من التحضيض : فهذا يقتل باتفاق العلماء إذا قدر عليه وتؤخذ منه الجزية وإن كان حبيسا منفردا في متعبده . فكيف بمن هم كسائر النصارى في معايشهم ومخالطتهم الناس واكتساب الأموال بالتجارات والزراعات والصناعات ; [ ص: 661 ] واتخاذ الديارات الجامعات لغيرهم وإنما تميزوا على غيرهم بما يغلظ كفرهم ويجعلهم أئمة في الكفر مثل التعبد بالنجاسات وترك النكاح واللحم واللباس الذي هو شعار الكفر لا سيما وهم الذين يقيمون دين النصارى بما يظهرونه من الحيل الباطلة التي صنف الفضلاء فيها مصنفات ومن العبادات الفاسدة وقبول نذورهم وأوقافهم .

                والراهب عندهم شرطه ترك النكاح فقط وهم مع هذا يجوزون أن يكون بتركا وبطرقا وقسيسا وغيرهم من أئمة الكفر الذين يصدرون عن أمرهم ونهيهم ; ولهم أن يكتسبوا الأموال كما لغيرهم مثل ذلك . فهؤلاء لا يتنازع العلماء في أنهم من أحق النصارى بالقتل عند المحاربة وبأخذ الجزية عند المسالمة وأنهم من جنس أئمة الكفر الذين قال فيهم الصديق رضي الله عنه ما قال وتلا قوله تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر } .

                ويبين ذلك أنه سبحانه وتعالى قد قال : { إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } وقد قال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } .

                فهل يقول عالم : إن أئمة الكفر الذين يصدون عوامهم عن سبيل [ ص: 662 ] الله ويأكلون أموال الناس بالباطل ويرضون بأن يتخذوا أربابا من دون الله : لا يقاتلون ولا تؤخذ منهم الجزية ; مع كونها تؤخذ من العامة الذين هم أقل منهم ضررا في الدين وأقل أموالا . لا يقوله من يدري ما يقول . وإنما وقعت الشبهة لما في لفظ الراهب من الإجمال والاشتراك وقد بينا أن الأثر الوارد مقيد مخصوص وهو يبين المرفوع في ذلك . وقد اتفق العلماء على أن علة المنع هو ما بيناه .

                فهؤلاء الموصوفون تؤخذ منهم الجزية بلا ريب ولا نزاع بين أئمة العلم فإنه ينتزع منهم ولا يحل أن يترك شيء من أرض المسلمين التي فتحوها عنوة وضرب الجزية عليها ; ولهذا لم يتنازع فيه أهل العلم : من أهل المذاهب المتبوعة : من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة : أن أرض مصر كانت خراجية وقد ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم ; حيث قال صلى الله عليه وسلم { منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مدها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودرهمها وعدتم من حيث بدأتم } لكن المسلمون لما كثروا نقلوا أرض السواد في أوائل الدولة العباسية من المخارجة إلى المقاسمة ولذلك نقلوا مصر إلى أن استغلوها هم كما هو الواقع اليوم ولذلك رفع عنها الخراج .

                ومثل هذه الأرض لا يجوز باتفاق المسلمين أن تجعل حبسا على [ ص: 663 ] مثل هؤلاء يستغلونها بغير عوض . فعلم أن انتزاع هذه الأرضين منهم واجب باتفاق علماء المسلمين ; وإنما استولوا عليها بكثرة المنافقين من المنتسبين إلى الإسلام في الدولة الرافضية واستمر الأمر على ذلك وبسبب كثرة الكتاب والدواوين منهم ومن المنافقين : يتصرفون في أموال المسلمين بمثل هذا كما هو معروف من عمل الدواوين الكافرين والمنافقين .

                ولهذا يوجد لمعابد هؤلاء الكفار من الأحباس ما لا يوجد لمساجد المسلمين ومساكنهم : للعلم والعبادة ; مع أن الأرض كانت خراجية باتفاق علماء المسلمين . ومثل هذا لا يفعله من يؤمن بالله ورسوله وإنما يفعله الكفار والمنافقون ومن لبسوا عليه ذلك من ولاة أمور المسلمين . فإذا عرف ولاة أمور المسلمين الحال عملوا في ذلك ما أمر الله به ورسوله . والله سبحانه وتعالى أعلم . وصلى الله على محمد .




                الخدمات العلمية