الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ابن سمعون

                                                                                      الشيخ الإمام ، الواعظ الكبير المحدث أبو الحسين ، محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس البغدادي ، شيخ زمانه ببغداد .

                                                                                      مولده سنة ثلاثمائة .

                                                                                      وسمعون : هو لقب جده إسماعيل .

                                                                                      سمع أبا بكر بن أبي داود وهو أعلى شيخ له ، ومحمد بن مخلد العطار ، ومحمد بن عمرو بن البختري ، وأحمد بن سليمان بن زبان الدمشقي ، ومحمد بن محمد بن أبي حذيفة ، وعدة ، أملى عنهم عشرين مجلسا ، سمعناها عالية .

                                                                                      حدث عنه : أبو عبد الرحمن السلمي ، وعلي بن طلحة المقرئ ، [ ص: 506 ] والحسن بن محمد الخلال ، وأبو طالب العشاري ، وأبو الحسين بن الآبنوسي ، وخديجة بنت محمد الشاهجانية ، وأبو بكر أحمد بن محمد بن حمدوه الحنبلي ، وآخرون .

                                                                                      وجد أبيه عنبس - بنون ساكنة - هو عنبس بن إسماعيل القزاز ، روى عن شعيب بن حرب ، لحقه محمد بن مخلد .

                                                                                      قال السلمي : هو من مشايخ البغداديين ، له لسان عال في هذه العلوم ، لا ينتمي إلى أستاذ ، وهو لسان الوقت ، والمرجوع إليه في آداب المعاملات ، يرجع إلى فنون من العلم .

                                                                                      وقال الخطيب : كان أوحد دهره ، وفرد عصره في الكلام على علم الخواطر . دون الناس حكمه ، وجمعوا كلامه ، وكان بعض شيوخنا إذا حدث عنه ، قال : حدثنا الشيخ الجليل المنطق بالحكمة .

                                                                                      أنبأنا ابن علان ، عن القاسم بن علي ، أخبرنا نصر الله بن محمد الفقيه ، أخبرنا أبو الفتح نصر بن إبراهيم ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الواحد الزعفراني ، حدثني أبو محمد السني صاحب أبي الحسين بن سمعون ، قال : كان ابن سمعون في أول أمره ينسخ بالأجرة ، وينفق على نفسه وأمه ، فقال لها يوما : أحب أن أحج ، قالت : وكيف يمكنك ؟ ! فغلب عليها النوم ، فنامت وانتبهت بعد ساعة ، وقالت : يا ولدي حج . رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم يقول : دعيه يحج فإن الخير له في حجه ، ففرح وباع دفاتره ، ودفع إليها من ثمنها ، وخرج مع الوفد ، فأخذت العرب الوفد . قال : فبقيت عريانا ، فجعلت إذا غلب علي الجوع ووجدت قوما من الحجاج يأكلون [ ص: 507 ] وقفت ، فيدفعون إلي كسرة فأقتنع بها ، ووجدت مع رجل عباءة ، فقلت : هبها لي أستتر بها ، فأعطانيها وأحرمت فيه ، ورجعت . وكان الخليفة قد حرم جارية وأراد إخراجها من الدار . قال السني : فقال الخليفة : اطلبوا رجلا مستورا يصلح أن تزوج هذه الجارية به ، فقيل : قد جاء ابن سمعون ، فاستصوب الخليفة ذلك ، وزوجه بها . فكان يعظ ويقول : خرجت حاجا ، ويشرح حاله ويقول : ها أنا اليوم علي من الثياب ما ترون .

                                                                                      قلت : كان فاخر الملبوس .

                                                                                      قال أبو بكر البرقاني : قلت له يوما : تدعو الناس إلى الزهد ، وتلبس أحسن الثياب ، وتأكل أطيب الطعام ، كيف هذا ؟ فقال : كل ما يصلحك لله فافعله إذا صلح حالك مع الله تعالى .

                                                                                      قال أبو محمد الخلال : قال لي ابن سمعون : ما اسمك ؟ قلت : حسن . قال : قد أعطاك الله الاسم ، فسله المعنى .

                                                                                      قال أبو النجيب الأرموي : سألت أبا ذر عن ابن سمعون هل اتهمته ؟ قال : بلغني أنه روى جزءا عن ابن أبي داود ، عليه : وأبو الحسين بن سمعون ، وكان رجلا سواه ، لأنه كان صبيا ، ما كانوا يكنونه في ذلك الوقت . وسماعه من غيره صحيح . وكان القاضي أبو بكر الأشعري ، وأبو حامد يقبلان يده ، وكان القاضي يقول : ربما خفي علي من كلامه بعض الشيء لدقته .

                                                                                      السلمي : سمعت ابن سمعون ، يقول في [ ص: 508 ] وواعدنا موسى ثلاثين ليلة مواعيد الأحبة وإن اختلفت فإنها تؤنس . كنا صبيانا ندور على الشط ونقول :

                                                                                      ماطليني وسوفي وعديني ولا تفي     واتركيني مولها
                                                                                      أو تجودي وتعطفي

                                                                                      الخطيب : حدثنا محمد بن محمد الظاهري ، سمعت ابن سمعون يذكر أنه أتى بيت المقدس ، ومعه تمر ، فطالبته نفسه برطب ، فلامها ، فعمد إلى التمر وقت إفطاره فوجده رطبا ، فلم يأكل منه ، ثم ثاني ليلة وجده تمرا .

                                                                                      الخطيب : سمعت أحمد بن علي البادي ، سمعت أبا الفتح القواس يقول : لحقتني إضاقة ، فأخذت قوسا وخفين لأبيعهما ، فقلت : أحضر مجلس ابن سمعون ثم أبيع ، فحضرت ، فلما فرغ ناداني : يا أبا الفتح لا تبع الخفين والقوس ، فإن الله سيأتيك برزق من عنده ، أو كما قال .

                                                                                      الخطيب : حدثنا شرف الوزراء أبو القاسم ، حدثني أبو طاهر بن العلاف قال : حضرت ابن سمعون وهو يعظ وأبو الفتح القواس إلى جنب الكرسي ، فنعس ، فأمسك أبو الحسين عن الكلام ساعة حتى استيقظ أبو الفتح ، فقال له أبو الحسين : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومك ؟ قال : نعم . فقال : لذلك أمسكت خوفا أن تنزعج .

                                                                                      الخطيب : حدثنا الوزير أبو القاسم ، حدثنا أبو علي بن أبي موسى الهاشمي ، قال : حكى لي مولى الطائع أن الطائع أمره ، فأحضر ابن سمعون ، فرأيت الطائع غضبان - وكان ذا حدة - فسلم ابن سمعون بالخلافة ، [ ص: 509 ] ثم أخذ في وعظه فقال : روي عن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- كذا . ووعظ حتى بكى الطائع وسمع شهيقه ، وابتل منديل من دموعه . فلما انصرف سئل الطائع عن سبب طلبه ، فقال : رفع إلي أنه ينتقصعليا ، فأردت أقابله ، فلما حضر افتتح بذكره والصلاة عليه ، وأعاد وأبدى في ذكره ، فعلمت أنه وفق ، ولعله كوشف بذلك .

                                                                                      قاضي المرستان ، أنبأنا القضاعي ، حدثنا علي بن نصر ، حدثنا أبو الثناء شكر العضدي ، قال : لما دخل عضد الدولة بغداد وقد هلك أهلها قتلا وخوفا وجوعا للفتن التي اتصلت بين السنة والشيعة ، فقال : آفة هؤلاء القصاص ، فمنعهم ، وقال : من خالف أباح دمه ، فعرف ابن سمعون ، فجلس على كرسيه ، فأمرني مولاي ، فأحضرته ، فدخل رجل عليه نور ، قال شكر : فجلس إلى جنبي غير مكترث ، فقلت : إن هذا الملك جبار عظيم ، ما أوثر لك مخالفته ، وإني موصلك إليه ، فقبل الأرض وتلطف له واستعن بالله عليه . فقال : الخلق والأمر لله . فمضيت به إلى حجرة قد جلس فيها الملك وحده ، فأوقفته ثم دخلت أستأذن ، فإذا هو إلى جانبي ، وحول وجهه إلى دار عز الدولة ثم تلا : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ثم حول وجهه وقرأ : ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ثم أخذ في وعظه ، فأتى بالعجب ، فدمعت عين الملك ، وما رأيت ذلك منه قط ، وشرك كمه على وجهه ، فلما خرج أبو الحسين رحمه الله ، قال الملك : اذهب إليه بثلاثة آلاف درهم وعشرة أثواب من الخزانة فإن امتنع فقل له : فرقها في أصحابك ، وإن قبلها فجئني برأسه ، ففعلت ، فقال : إن ثيابي هذه فصلت من نحو أربعين سنة ألبسها يوم خروجي وأطويها [ ص: 510 ] عند رجوعي ، وفيها متعة وبقية ، ونفقتي من أجرة دار خلفها أبي ، فما أصنع بهذا ؟ قلت : فرقها على أصحابك ، قال : ما في أصحابي فقير . فعدت فأخبرته ، فقال : الحمد لله الذي سلمه منا وسلمنا منه .

                                                                                      قال أبو سعيد النقاش : كان ابن سمعون يرجع إلى علم القرآن وعلم الظاهر ، متمسكا بالكتاب والسنة ، لقيته وحضرت مجلسه ، سمعته يسأل عن قوله : " أنا جليس من ذكرني " قال أنا صائنه عن المعصية ، أنا معه حيث يذكرني ، أنا معينه .

                                                                                      السلمي : سمعت ابن سمعون ، وسئل عن التصوف ، فقال : أما الاسم ، فترك الدنيا وأهلها ، وأما حقيقته ، فنسيان الدنيا ونسيان أهلها . وسمعته يقول : أحق الناس بالخسارة يوم القيامة أهل الدعاوي والإشارة . قال أبو الحسن العتيقي : توفي ابن سمعون وكان ثقة مأمونا في نصف ذي القعدة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة .

                                                                                      قال أبو بكر الخطيب : ونقل ابن سمعون سنة ست وعشرين وأربعمائة من داره فدفن بمقبرة باب حرب ، ولم تكن أكفانه بليت فيما قيل .

                                                                                      قلت : نعم . الكفن قد يقيم نحوا من مائة سنة ، لأن الهواء لا يصل إليه فيسلم .

                                                                                      نقل أبو محمد بن حزم خرافة لا تثبت ، فقال : وقال شيخ - يقال له : [ ص: 511 ] ابن سمعون - ببغداد : إن الاسم الأعظم ليس هو في الأسماء الحسنى المعروفة ، قال : وهو سبعة وثلاثون حرفا من غير حروف المعجم .

                                                                                      أخبرنا عمر بن عبد المنعم ، عن أبي اليمن الكندي ، أخبرنا هبة الله بن أحمد ، أخبرنا محمد بن علي العشاري ، أخبرنا أبو الحسين بن سمعون ، أخبرنا أحمد بن محمد بن سلم ، حدثنا حفص الربالي ، حدثنا سهل بن زياد ، حدثنا أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ، فأصابهم عوز من الطعام ، فقال : يا أبا هريرة أعندك شيء ؟ قلت : نعم ، شيء من تمر في مزودي ، قال : جئ به ، وقال : هات نطعا ، فجئت بالنطع ، فبسطه ، فأدخل يده وقبض من التمر ، فإذا هو إحدى عشرة تمرة . ثم قال : باسم الله ، فجعل يضع كل تمرة ويسمي ، حتى أتى على التمر ، فقال به هكذا فجمعه ، فقال : ادع فلانا وأصحابه ، فأكلوا وشبعوا وخرجوا ، ثم قال : ادع فلانا وأصحابه ، فأكلوا وشبعوا وخرجوا . وفضل تمر ، فأكل وأكلت ، وفضل تمر ، فأدخله في المزود ، إلى أن قال : فجهزت منه خمسين وسقا في سبيل الله ، فوقع زمن عثمان .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية