الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثانية : الانبساط مع الحق . وهو أن لا يحبسك خوف ، ولا يحجبك رجاء . ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء .

[ ص: 339 ] يريد : أن لا يمنعك عن الانبساط إليه خوف . فإن مقام الخوف لا يجامع مقام الانبساط . والخوف من أحكام اسم القابض والانبساط من أحكام اسم الباسط .

والبسط عندهم : من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان والتودد والرحمة .

والقبض من مشاهدة أوصاف الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام .

وبعضهم يجعل الخوف من منازل العامة . والانبساط من منازل الخاصة . إذ الانبساط لا يكون إلا للعارفين أرباب التجليات . وليس في حق هؤلاء خوف .

وأما قوله : ولا يحجبك رجاء ؛ فلأن الراجي لطلبه حاجته تحتاج إلى التملق والتذلل . فيحجبه رجاؤه وطمعه فيما يناله من المعظم عن انبساطه . كالسائل للغني . فإن سؤاله وطمعه يمنعه من انبساطه إليه . فإذا غاب عن ذلك انبسط .

وقوله : ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء . استعارة .

والمعنى : أنك تراه أقرب إليك من أبيك وأمك ، وأرحم بك منهما ، وأشفق عليك . فلا توسط بينك وبينه أبا خرجت من صلبه ، ولا أما ركضت في رحمها .

وفيه معنى آخر . وهو الإشارة إلى أنك تشاهد خلقه لك بلا واسطة . كما خلق آدم وحواء . فتشاهد خلقه لك بيده ، ونفخه فيك من روحه . وإسجاد ملائكته لك . وإبعاد إبليس حيث لم يسجد لك . وأنت في صلب أبيك آدم .

وهذا يوجب لك شهود الانطواء عن الانبساط . وهو رحب الهمة لانطواء انبساط العبد في بسط الحق جل جلاله .

ومعنى هذا : أن لا يرى العبد لنفسه انبساطا ولا انقباضا . بل ينطوي انبساطه ويضمحل في صفة البسط التي للحق جل جلاله . وهذا شهود معنى اسم الباسط عز وجل .

فهذا تقدير كلامه ، على أن فيه مقبولا ومردودا . ولا معنى لتعلق هذه الصفة بالرب تعالى ألبتة ، وأما تعلقها بالخلق : فصحيح .

نعم هاهنا مقام اشتباه وفرق . وهو أن المحب الصادق : لا بد أن يقارنه أحيانا فرح بمحبوبه . ويشتد فرحه به . ويرى مواقع لطفه به ، وبره به ، وإحسانه إليه وحسن دفاعه عنه ، والتلطف في إيصاله المنافع والمسار والمبار إليه بكل طريق ، ودفع المضار والمكاره عنه [ ص: 340 ] بكل طريق . وكلما فتش عن ذلك اطلع منه على أمور عجيبة . لا يقف وهمه ومقتبسه لها على غاية . بل ما خفي عنه منها أعظم . فيداخله من شهود هذه الحالة نوع إدلال وانبساط . وشهود نفسه في منزلة المراد المحبوب . ولا يسلم من آفات ذلك إلا خواص العارفين .

وصاحب هذا المقام نهايته : أن يكون معذورا ، وما يبدو منه من أحكامه بالشطحات أليق منه بأحكام العبودية .

ولم يكن لأحد من البشر في منزلة القرب والكرامة والحظوة والجاه ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى . وكان أشد الخلق لله خشية وتعظيما وإجلالا . وحاله كلها مع الله تشهد بتكميل العبودية . وأين درجة الانبساط من المخلوق من التراب ، إلى الانبساط مع رب الأرباب ؟

نعم لا ينكر فرح القلب بالرب تعالى وسروره به ، وابتهاجه وقرة عينه ، ونعيمه بحبه ، والشوق إلى لقائه : إلا كثيف الحجاب ، حجري الطباع . فلا بهذا الميعان . ولا بذاك الجمود والقسوة .

وبهذا ومثله طرق المتأخرون من القوم السبيل إليهم . وفتحوا للمقالة فيهم بابا ، فالعبد الخائف الوجل المشفق الذليل بين يدي الله عز وجل ، المنكس الرأس بين يديه ، الذي لا يرضى لربه شيئا من عمله : هو أحوج شيء إلى عفوه ورحمته . ولا يرى نفسه في نعمته إلا طفيليا . ولا يرى نفسه محسنا قط . وإن صدر منه إحسان : علم أنه ليس من نفسه ، ولا بها ولا فيها . وإنما هو محض منة الله عليه ، وصدقته عليه . فما لهذا والانبساط ؟

نعم انبساطه انبساط فرح وسرور ورضا وابتهاج . فإن كان المراد بالانبساط هذا : فلا ننكره . لكنه غير الاسترسال المذكور ، والاستشهاد عليه بالآية يبين مراده . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية