الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قال : ومن باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب فليس له أن يرده بعيب وإن لم يسم العيوب بعددها ) [ ص: 397 ] وقال الشافعي : لا تصح البراءة بناء على مذهبه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة لا يصح . هو يقول : إن في الإبراء معنى التمليك حتى يرتد بالرد ، وتمليك المجهول لا يصح . ولنا أن الجهالة في الإسقاط [ ص: 398 ] لا تفضي إلى المنازعة وإن كان في ضمنه التمليك لعدم الحاجة إلى التسليم فلا تكون مفسدة [ ص: 399 ] ويدخل في هذه البراءة العيب الموجود والحادث قبل القبض في قول أبي يوسف . وقال محمد رحمه الله : لا يدخل فيه الحادث وهو قول زفر رحمه الله ; لأن البراءة تتناول الثابت . ولأبي يوسف أن الغرض إلزام العقد بإسقاط حقه عن صفة السلامة وذلك بالبراءة عن الموجود والحادث .

التالي السابق


( قوله ومن باع عبدا إلخ ) ليس العبد بقيد ، فإن البيع .

[ ص: 397 ] بشرط البراءة من كل عيب صحيح في الحيوان وغيره ، ويبرأ البائع به من كل عيب قائم وقت البيع معلوم له أو غير معلوم ، ومن كل عيب يحدث إلى وقت القبض أيضا خلافا لمحمد في الحادث ، وأجمعوا أن البيع لو كان بشرط البراءة من كل عيب به لا يدخل الحادث في البراءة ، وللشافعي قول كقولنا ، وقول إنه لا يبرأ من عيب أصلا ، وثالثها وهو الأصح أنه يبرأ ، ويروى عن مالك يبرأ البائع في الحيوان عما لا يعلمه دون ما يعلمه ، لما روي " أن ابن عمر رضي الله عنهما باع عبدا من زيد بن ثابت بشرط البراءة فوجد زيد به عيبا فأراد رده فلم يقبله ابن عمر فترافعا إلى عثمان رضي الله عنه ، فقال عثمان لابن عمر : أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب ؟ فقال لا ، فرده عليه " ، والفرق أن كتمان المعلوم تلبيس ، بخلاف غير المعلوم ، وأما في غير الحيوان فلا يبرأ من عيب ما ، فذكر المصنف خلافا مطلقا هو أحد أقواله ، قال : وهذا ( بناء على مذهبه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة لا يصح ) فنصب الخلاف في المبني فقال : ( هو يقول في الإبراء معنى التمليك ولهذا يرتد بالرد ) حتى لو أبرأ من له الدين مديونه فرده المديون لم يبرأ ، وكذا لا يصح تعليق الإبراء لما فيه من معنى التمليك ( وتمليك المجهول لا يصح ) ; ولأنه عليه الصلاة والسلام { نهى عن بيع الغرر } وهذا بيع الغرر ; لأنه لا يدري أن المبيع على أي صفة هو ; ولأنه شرط على خلاف مقتضى العقد ; لأن مقتضاه سلامة المبيع فهو كشرط عدم الملك ، ولنا أن الإبراء إسقاط حق يتم بلا قبول كالطلاق والعتاق بأن طلق نسوته أو أعتق عبيده ولم يدر كم هم ولا أعيانهم ، كأن ورث عبيدا في غير بلده أو زوجه وليه صغيرا فبلغ وهي في غير بلده ، ولذا لا يصح تمليك الأعيان بلفظ الإبراء ، ويصح الإبراء بلفظ الإسقاط كأن يقول : .

[ ص: 398 ] أسقطت عنك ديني عليك ، والإسقاط لا يبطله جهالة الساقط ; لأن جهالته ( لا تفضي إلى المنازعة وإن كان في ضمنه التمليك ) فأظهرنا أثره في صحة رده وعدم تعليقه بالشرط فانتفى المانع ووجد المقتضي ، وهو تصرف العاقل البالغ بإسقاط حقوقه ، بخلاف التمليك فإن جهالة المملك فيه تمنع من التسليم فلا تترتب فائدة التصرف عليه ، أما الإسقاط فإن الساقط يتلاشى فلا يحتاج إلى تسليم ، فظهر أن المبطل لتمليك المجهول ليس الجهالة بل عدم القدرة على التسليم ، ولذا جاز بيع قفيز من صبرة ، وإنما امتنع بيع شاة من قطيع للمنازعة في تعيين ما يسلمه للتفاوت .

وأما عدم الصحة في قوله أبرأت أحدكما فلجهالة من له الحق ، كما لم يصح قوله لرجل علي ألف وصح لفلان علي شيء ، ويلزم بالتعيين ، على أن من المشايخ من أجازه وألزمه بالتعيين كطلاق إحدى زوجتيه ، وجه المختار أن الطلاق بعد وقوعه لا جهالة فيه ، وكذا العتاق لمن له الحق ; لأنه لله تبارك وتعالى ولذا لو اتفقا على إبطاله لم يبطل ، ويدل على ما قلنا { حديث علي رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بين بني خزيمة } وذلك { أنه صلى الله عليه وسلم بعث أولا خالد بن الوليد فقتل منهم قتلى بعدما اعتصموا بالسجود ، فدفع صلى الله عليه وسلم إلى علي مالا فوداهم حتى ميلغة الكلب ، وبقي في يده مال فقال : هذا لكم مما لا تعلمون ولا يعلمه صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر به } وهو دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة ، وروي { أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث درست ، فقال صلى الله عليه وسلم : استهما وتواخيا الحق وليحلل كل واحد منكما صاحبه } وفيه إجماع عملي للمسلمين ; لأن من حضره الموت في كافة الأعصار استحل من معامليه من غير نكير ، والمعنى الفقهي ما ذكرنا ، والغرور والله أعلم إيهام خلاف الثابت ، ومنه ولد المغرور بحرية امرأة ليتزوجها وليست حرة وحين شرط البراءة من العيوب فقد نبهه على إبهام العيوب وبقائه في يده بها فلم يغره ، وقوله شرط ينافي مقتضى العقد ، وهو السلامة ، قلنا يوافق مقتضاه وهو اللزوم ، وكون السلامة مقتضاه إن أردت العقد المطلق سلمناه ، أو المقيد بشرط البراءة من العيوب إن كانت منعناه ، وإلا لزم أن .

[ ص: 399 ] لا يصح شرط البراءة من العيوب المسماة إن ظهرت وجوازه اتفاقا ، وقوله ( ويدخل في هذه البراءة ) يعني البراءة المذكورة في الكتاب ، فإن الإشارة إليها وهي البراءة من كل عيب ، واحترز بالإشارة المذكورة عن البراءة من كل عيب به .

وقد ذكرنا أنه لا يبرأ عن العيب الحادث بالإجماع ، والمراد بقوله ( في قول أبي يوسف ) ظاهر الرواية عنه وهو قول أبي حنيفة ( وقال محمد : لا يدخل فيه الحادث وهو قول زفر ) والحسن بن زياد والشافعي ومالك ورواية عن أبي يوسف ( لأن البراءة تتناول الثابت ) فتنصرف إلى الموجود عند العقد فقط ( ولأبي يوسف أن ) الملاحظ هو المعنى والغرض ، ومعلوم أن ( الغرض ) من هذا الشرط ( إلزام العقد بإسقاط المشتري حقه عن وصف السلامة ) ليلزم على كل حال ولا يطالب البائع بحال ( وذلك بالبراءة عن كل عيب ) يوجب للمشتري الرد ، والحادث بعد العقد كذلك ، فاقتضى الغرض المعلوم دخوله ، وأورد أنه ذكر في شرح الطحاوي أنه لو صرح بالبراءة عن العيب الحادث لم يصح بالإجماع فكيف يصح من أبي يوسف إدخال الحادث بلا تنصيص وهو مع التنصيص عليه يبطله ، أجيب بمنع أنه إجماع بأن في الذخيرة إذا باع بشرط البراءة من كل عيب وما يحدث بعد البيع قبل القبض يصح عند أبي يوسف خلافا لمحمد ، وذكر في المبسوط في موضع آخر لا رواية عن أبي يوسف فيما إذا نص على البراءة من كل عيب حادث ، ثم قال : وقيل ذلك صحيح عنده باعتبار أنه يقيم السبب ، وهو العقد مقام العيب الموجب للرد ، ولئن سلمنا فالفرق أن الحادث يدخل تبعا لتقرير غرضهما ، وكم من شيء لا يثبت مقصودا ويثبت تبعا ، ولو اختلفا في عيب أنه حادث بعد العقد أو كان عنده لا أثر لهذا عند أبي يوسف ، وعند محمد القول قول البائع مع يمينه على العلم أنه حادث ; لأن بطلان حق المشتري في الفسخ ظاهر بشرط البراءة ، وثبوت حق الفسخ بعيب حدث باطن ، فإذا ادعى باطنا ليزيل به ظاهرا لا يصدق إلا بحجة ، وعند زفر القول للمشتري ; لأنه هو المسقط لحقه فالقول في بيان ما أسقط قوله . [ فروع ]

جمعها في الدراية : شرط البراءة من كل عيب به أو خص ضربا من العيوب لم ينصرف إلى الحادث بالإجماع ويصح تخصيصه ، ولو شرطهما من عيب واحد كشجة فحدث عند المشتري عيب أو موت فاطلع على عيب آخر كشجة أخرى فأراد أن يرجع بالنقصان لامتناع الرد بالعيب الحادث اعتبر أبو يوسف نفع حصول البراءة للبائع فجعل الخيار في تعيين العيب الذي يرد به إليه وجعله محمد للمشتري فيرد بأيهما شاء ، ولا يخفى أن هذا إذا لم يعين الشجة المتبرأ منها عند البيع بل أبرأه من شجة به أو عيب ، ولو أبرأه من كل غائلة فهي السرقة والإباق والفجور ، وكذا روي عن أبي يوسف ، ولو أبرئ من كل داء ، فعن أبي حنيفة الداء ما في الباطن في العادة وما سواه يسمى مرضا ، وقال أبو يوسف : يتناول الكل وتقدم أول الباب ذلك ، وفي جمع التفاريق قطع الأصبع عيب .

[ ص: 400 ] والأصبعين عيبان والأصابع مع الكف عيب واحد ، ولو قبل في الثوب بعيوبه يبرأ من الخروق وتدخل الرقع والرفو ، ولو تبرأ من كل سن سوداء تدخل الحمراء والخضراء ، ومن كل قرح تدخل القروح الدامية ، وفي المحيط : أبرأتك من كل عيب بعينه فإذا هو أعور لا يبرأ ; لأنه عدمها لا عيب بها ، ولو قال : أنا بريء من كل عيب إلا إباقه برئ من إباقه ، ولو قال الإباق فله الرد بالإباق ، ولو قال أنت بريء من كل حق لي قبلك دخل العيب هو المختار دون الدرك ، ولو قال المشتري ليس به عيب لم يكن إقرارا بانتفاء العيوب ، حتى لو وجد به عيبا رده ، ولو عين فقال ليس بآبق صح إقراره ، ولو وجد به عيبا فاصطلحا على أن يدفع أو يحط دينارا جاز .

ولو دفعه المشتري ليرد لم يجز ; لأنه ربا وزوال العيب يبطل الصلح فيرد على البائع ما بذل أو حط إذا زال ، ولو زال بعد خروجه عن ملكه لا يرده ، ولو صالحه بعد الشراء من كل عيب بدرهم جاز وإن لم يجد به عيبا ; ولو قال اشتريت منك العيوب لم يجز ، وحذف الحروف أو نقصها أو النقط أو الإعراب في المصحف عيب ، ولو وجد به عيبا فاصطلحا على أن يحط كل عشرة ويأخذ الأجنبي بما وراء المحطوط ورضي الأجنبي بذلك جاز وجاز حط المشتري دون البائع ; ولو قصر المشتري الثوب فإذا هو متخرق وقال المشتري لا أدري تخرق عند القصار أو عند البائع فاصطلحوا على أن يقبله المشتري ويرد عليه القصار درهما والبائع درهما جاز ، وكذا لو اصطلحا على أن يقبله البائع ويدفع له القصار درهما ويترك المشتري درهما قيل هذا غلط ، وتأويله أن يضمن القصار أولا للمشتري ثم يدفع المشتري ذلك للبائع .

وفي المجتبى : أدخل المشتري القدوم في النار أو حد المنشار أو حلب الشاة أو البقرة لم يرد سواء كان في المصراة أو غيرها ، وفي المصراة يرد بقلة اللبن عند الشافعي ومالك وأحمد وزفر ورواية عن أبي يوسف : والمصراة شاة ونحوها سد ضرعها ليجتمع لبنها ليظن المشتري أنها كثيرة اللبن فإذا حلبها ليس له ردها عندنا ، وهل يرجع بالنقصان ؟ في رواية الكرخي لا ، وفي رواية شرح الطحاوي يرجع لفوات وصف مرغوب فيه بعد حدوث زيادة منفصلة ، وقيل لو اختيرت هذه للفتوى كان حسنا لغرور المشتري بالتصرية ، ولو اغتر بقول البائع هي حلوب فتبين خلافه بعد الولادة يرجع فكذا هنا ، ولو وقف الأرض أو جعلها مسجدا ثم اطلع على عيب امتنع الرد ، والرجوع بالأرش عند محمد ، وعند أبي يوسف يرجع بالأرش ، ولو اشترى ضيعة مع غلاتها فوجدها معيبة ردها في الحال ; لأنه إن جمع غلاتها فهو رضا ، وإن تركها يزداد العيب فيمتنع الرد ،




الخدمات العلمية