الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني مالك عن صيفي مولى ابن أفلح عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه قال دخلت على أبي سعيد الخدري فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى قضى صلاته فسمعت تحريكا تحت سرير في بيته فإذا حية فقمت لأقتلها فأشار أبو سعيد أن اجلس فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال أترى هذا البيت فقلت نعم قال إنه قد كان فيه فتى حديث عهد بعرس فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فبينا هو به إذ أتاه الفتى يستأذنه فقال يا رسول الله ائذن لي أحدث بأهلي عهدا فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك بني قريظة فانطلق الفتى إلى أهله فوجد امرأته قائمة بين البابين فأهوى إليها بالرمح ليطعنها وأدركته غيرة فقالت لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك فدخل فإذا هو بحية منطوية على فراشه فركز فيها رمحه ثم خرج بها فنصبه في الدار فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتا فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الفتى أم الحية فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          1828 1781 - ( مالك عن صيفي ) بن زياد الأنصاري مولاهم المدني من الثقات ، ( مولى ابن أفلح ) بالفاء والمهملة ( عن ابن السائب ) الأنصاري المدني ، يقال اسمه عبد الله بن السائب تابعي ، ثقة ( مولى هشام بن زهرة ) - بضم الزاي - ( أنه قال : دخلت على أبي سعيد الخدري ) بيته [ ص: 614 ] ، ( فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى قضى ) ، أي : أتم ( صلاته فسمعت تحريكا تحت سرير في بيته ، فإذا حية فقمت لأقتلها ، فأشار أبو سعيد أن اجلس ) ، ولا تقتلها ، ( فلما انصرف ) من الصلاة ، ( أشار إلى بيت في الدار قال : أترى هذا البيت ؟ فقلت : نعم ، أراه ( قال : إنه قد كان فيه فتى حديث عهد بعرس ، فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق ) في غزوة الأحزاب ، ( فبينما هو به ، إذ أتاه يستأذنه ) لقوله تعالى : ( وإذا كانوا معه على أمر جامع ) ( سورة النور : الآية 62 ) الآية ، ( فقال : يا رسول الله ائذن لي أحدث بأهلي ) ، أي امرأتي ( عهدا ، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) في الذهاب إلى أهله ، ( وقال : خذ عليك سلاحك ، فإني أخشى عليك بني قريظة ) ، يقتضي أن بين المدينة والخندق خلاء يخشى عليه منهم ، قاله الأبي ، وزاد في رواية ابن وهب عن مالك : وكان الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإنصاف النهار ، فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوما ، فقال : خذ عليك سلاحك . . . إلخ .

                                                                                                          قال عياض : روينا أنصاف - بفتح الهمزة - أي : بنصفي النهار ، وهو آخر نصفه الأول ، وأول الثاني ، وجمع مع الإضافة إلى النهار ، كما قال ظهور الترسين ، وقد يكون أنصاف مصدر نصف النهار ، إذا بلغ نصفه ، قال بعضهم : إنما يقال : نصف النهار ، إذا بلغ نصفه ، ولا يقال : أنصف رباعيا ، ( فانطلق ) ، ولابن وهب : فأخذ سلاحه ، ثم رجع ( الفتى إلى أهله فوجد امرأته قائمة بين البابين ) ، خوفا من الحية ، فظن هو سيئا ، ( فأهوى ) مد يده ( إليها بالرمح ليطعنها ) - بضم العين - ( وأدركته غيرة ) - بفتح المعجمة - عطف علة على معلول ، ( فقالت : لا تعجل حتى تدخل ، وتنظر ما في بيتك ) ، وفي رواية ابن وهب فقالت : اكفف عليك رمحك ، وادخل حتى تنظر ما الذي أخرجني ، ( فدخل فإذا هو بحية منطوية على فراشه ، فركز فيها رمحه ) ، ولابن وهب : فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به [ ص: 615 ] ( ثم خرج بها ، فنصبه ) ، أي : الرمح ( في الدار ، فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر ) : سقط ( الفتى ميتا ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الفتى ، أم الحية ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، ولابن وهب : " فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله أن يحييه لنا فقال : استغفروا لصاحبكم " ، قال القرطبي : قالوا ذلك لما شاهدوه من إجابة دعوته ، وعموم بركته .

                                                                                                          ( فقال : إن بالمدينة جنا قد أسلموا ) ، قال القرطبي : وكذا أسلم بغيرها ، فيلزم المساواة في منع القتل إلا بإذن .

                                                                                                          ولا يفهم من الحديث أن الذي قتله الفتى مسلم ، وأن الجن قتلته قصاصا ؛ لأن القصاص ، وإن شرع بين الإنس والجن ، لكن شرطه العمد ، والفتى لم يتعمد قتل نفس مسلمة ، وإنما قتل مؤذيا يسوغ له قتل نوعه شرعا ، فهو من القتل خطأ ، فالأولى أن يقال : إن فسقة الجن قتلته بصاحبهم عدوانا ، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - : إن بالمدينة جنا قد أسلموا ليبين طريقا يحصل بها التحرز عن قتل المسلم منهم ، ويسلط به على قتل الكافر منهم .

                                                                                                          ( فإذا رأيتم منهم شيئا ، فآذنوه ثلاثة أيام ) ، قال عياض : هذا تفسير قوله في الرواية الأخرى ، وبه أخذ مالك أن الإنذار ثلاثة أيام ، وإن ظهر في يوم ثلاث مرار لم يكف حتى ينذر ثلاثة أيام ، انتهى .

                                                                                                          وصفة الإنذار ، روى الترمذي وحسنه عن أبي ليلى قال : " قال - صلى الله عليه وسلم - : إذا ظهرت الحية في المسكن ، فقولوا لها : نسألك بعهد نوح ، وبعهد سليمان بن داود لا تؤذينا ، فإن عادت فاقتلوها " ، ولأبي داود من حديثه : " أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن جنان البيوت ، فقال : إذا رأيتم منهن شيئا في مساكنكم ، فقولوا : أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم نوح ، أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم سليمان أن لا تؤذونا ، فإن عدن فاقتلوهن " ، وقال مالك : يكفي أن يقال : أحرج عليكم بالله ، واليوم الآخر أن لا تبدوا لنا ، ولا تؤذونا .

                                                                                                          قال عياض : أظنه أخذه من رواية لمسلم عن أبي سعيد ، فقال : إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم شيئا منها ، فحرجوا عليها ثلاثا .

                                                                                                          وقال في الفتح : معناه أن يقال لهن : أنتن في ضيق وحرج إن لبثت عندنا ، أو ظهرت لنا ، أو عدت إلينا .

                                                                                                          ( فإن بدا لكم بعد ذلك ، فاقتلوه فإنما هو شيطان ) ، وفي الطريق الثانية عند مسلم : " فإنه كافر ، وقال لهم : اذهبوا فادفنوا صاحبكم " ، قال عياض : لأنه إذا لم يذهب بالإنذار بان أنه ليس من عمار البيوت ، ولا ممن أسلم ، وأنه شيطان فقتله مباح ، وأن الله سبحانه لم يجعل له سبيلا إلى الاقتصاص ممن قتله ، كما فعل بجنان البيت ، ومن أسلم لم ينذر .

                                                                                                          قال القرطبي : والأمر [ ص: 616 ] في ذلك للإرشاد إلا يحقق الضرر فيجب رفعه .

                                                                                                          قال الأبي : هل الموجب للاستئذان الإسلام ، أو خوف مثل ما وقع للفتى ، فإن كان الثاني فخوف وقوعه ممن لا يسلم أقوى إلا أن يقال : يحتمل أن الله لم يقدر ذلك إلا على من يسلم دون الكافر ، ويدل عليه قوله : فإنه كافر فإنه شيطان ، انتهى .

                                                                                                          وبه جزم عياض كما رأيت ، وهو مدلول الحديث ، فالموجب للاستئذان الإسلام فلا معنى للتوقف ، والعجب أنه بعد أسطر نقل كلام عياض ، وهذا الحديث رواه مسلم من طريق ابن وهب عن مالك به بعض زيادة علمتها ، وتابعه في ذلك شيخه صيفي بن أسماء بن عبيد عن أبي السائب عند مسلم قائلا نحو حديث مالك عن صيفي ، وقال فيه : " فقال - صلى الله عليه وسلم - : إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم شيئا منها ، فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ، وقال لهم : اذهبوا فادفنوا صاحبكم " ، وتابعه أيضا في الحديث بدون القصة ابن عجلان عن صيفي في مسلم أيضا نحوه .




                                                                                                          الخدمات العلمية