الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 61 ] قاعدة الأصل في الأبضاع التحريم .

                فإذا تقابل في المرأة حل وحرمة ، غلبت الحرمة ، ولهذا امتنع الاجتهاد فيما إذا اختلطت محرمة بنسوة قرية محصورات لأنه ليس أصلهن الإباحة حتى يتأيد الاجتهاد باستصحابه ، وإنما جاز النكاح في صورة غير المحصورات ، رخصة من الله كما صرح به الخطابي لئلا ينسد باب النكاح عليه .

                ومن فروع هذه القاعدة : ما ذكره الغزالي في الإحياء " أنه لو وكل شخصا في شراء جارية ووصفها ، فاشترى الوكيل جارية بالصفة ، ومات قبل أن يسلمها للموكل . لم يحل للموكل وطؤها لاحتمال أنه اشتراها لنفسه ، وإن كان شراء الوكيل الجارية بالصفات المذكورة ظاهرا في الحل ولكن الأصل التحريم ، حتى يتيقن سبب الحل .

                ومنها : ما ذكره الشيخ أبو محمد في التبصرة : أن وطء السراري اللائي يجلبن اليوم من الروم والهند والترك حرام ، إلا أن ينتصب في المغانم من جهة الإمام من يحسن قسمتها فيقسمها من غير حيف ولا ظلم ، أو تحصل قسمة من محكم ، أو تزوج بعد العتق بإذن القاضي والمعتق ، والاحتياط اجتنابهن مملوكات وحرائر .

                قال السبكي في الحلبيات : ولا شك أن الذي قاله الورع وأما الحكم اللازم : فالجارية إما أن يعلم حالها أو يجهل ، فإن جهل فالرجوع في ظاهر الشرع إلى اليد ، إن كانت صغيرة وإلى اليد وإقرارها ، إن كانت كبيرة ، واليد حجة شرعية ، كالإقرار ، وإن علم فهي أنواع :

                أحدها : من تحقق إسلامها في بلادها ، وأنه لم يجر عليها رق قبل ذلك ، فهذه لا تحل بوجه من الوجوه ، إلا بنكاح بشروطه .

                الثاني : كافرة ممن لهم ذمة وعهد فكذلك .

                الثالث : كافرة من أهل الحرب ، مملوكة لكافر حربي أو غيره ، فباعها فهي حلال لمشتريها .

                الرابع : كافرة من أهل الحرب ، قهرها وقهر سيدها كافر آخر ، فإنه يملكها كلها ويبيعها لمن يشاء ، وتحل لمشتريها وهذان النوعان : الحل فيهما قطعي وليس محل الورع ، كما أن النوعين الأولين الحرمة فيهما قطعية .

                النوع الخامس : كافرة من أهل الحرب ، لم يجر عليها رق ، وأخذها مسلم ، فهذا أقسام :

                [ ص: 62 ] أحدها : أن يأخذها جيش من جيوش المسلمين بإيجاف خيل أو ركاب ، فهي غنيمة أربعة أخماسها للغانمين ، وخمسها لأهل الخمس ، وهذا لا خلاف فيه ، وغلط الشيخ تاج الدين الفزاري ، فقال : إن حكم الفيء والغنيمة راجع إلى رأي الإمام يفعل فيه ما يراه مصلحة ، وصنف في ذلك كراسة سماها " الرخصة العميمة في أحكام الغنيمة " وانتدب له الشيخ محيي الدين النووي ، فرد عليه في كراسة أجاد فيها ، والصواب معه قطعا ، وقد تتبعت غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه ، فكل ما حصل فيه غنيمة أو فيء قسم وخمس ، وكذلك غنائم بدر . ومن تتبع السير وجد ذلك مفصلا ، ولو قال الإمام : من أخذ شيئا فهو له ، لم يصح .

                القسم الثاني : أن ينجلي الكفار عنها بغير إيجاب من المسلمين ، أو يموت عنها من لا وارث له من أهل الذمة ، وما أشبه ذلك ، فهذه فيء يصرف لأهله ، فالجارية التي توجد من غنيمة أو فيء ، لا تحل حتى تتملك من كل من يملكها من أهل الغنيمة أو الفيء ، أو من المتولي عليهم ، أو الوكيل عنهم ، أو ممن انتقل الملك إليه من جهتهم ، ولو بقي فيها قيراط لا تحل حتى يتملكه ممن هو له .

                القسم الثالث : أن يغزو واحد ، أو اثنان بإذن الإمام فما حصل لهما من الغنيمة يختصان بأربعة أخماسها . والخمس لأهله . هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء فلا فرق بين أن تكون السرية قليلة أو كثيرة .

                الرابع : أن يغزو واحد ، أو اثنان أو أكثر بغير إذن الإمام ، فالحكم كذلك عندنا وعند جمهور العلماء .

                الخامس : أن يكون الواحد أو الاثنان ونحوهما ليسوا على صورة الغزاة ، بل متلصصين فقد ذكر الأصحاب : أنهم إذا دخلوا يخمس ما أخذوه على الصحيح ، وعللوه بأنهم غرروا بأنفسهم فكان كالقتال وهذا التعليل يقتضي أنه لم ينقطع في الجملة عن معنى الغزو .

                والإمام في موضع حكى هذا وضعفه ، وقال : إن المشهور عدم التخميس وفي موضع ادعى إجماع الأصحاب على أنه يختص به ، ولا يخمس وجعل مال الكفار على ثلاثة أقسام : غنيمة ، وفيء ، وغيرهما كالسرقة ، فيتملكه من يأخذه ، قياسا على المباحات ووافقه الغزالي على ذلك وهو مذهب أبي حنيفة وقال البغوي : إن الواحد إذا أخذ من حربي شيئا على جهة السوم فجحده أو هرب به ، اختص به ، وفيما قاله نظر يحتمل أن يقال : يجب رده ; لأنه كان ائتمنه فإن صح ما قاله البغوي وافق الغزالي بطريق الأولى .

                وقال أبو إسحاق : إن المأخوذ على جهة الاختلاس فيء وقال الماوردي غنيمة . وما قاله الماوردي موافق لكلام الأكثرين ، وما قاله أبو إسحاق : إن أراد بالفيء [ ص: 63 ] الغنيمة حصل الوفاق ، وإلا فلا وزعم أنه ينزع من المختلس ، ويعطى جميعه لغيره من المقاتلة وأهل الخمس فبعيد .

                فهذا القسم الخامس من النوع الخامس ، قد اشتمل على صور ، ولم يفردها الأصحاب . بل ذكروها مدرجة مع القسم الرابع ، والجارية المأخوذة على هذه الصورة فيها هذا الخلاف ، واجتنابها محل الورع انتهى .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية