الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل

أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه : ( ياأيها المدثر قم فأنذر ) [المدثر : 1 ، 2 ] فنبأه بقوله ( اقرأ) وأرسله بـ : ( ياأيها المدثر ) ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ، ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة ، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده . ولما نزلت سورة ( براءة ) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن " يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام ، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين [ ص: 144 ] والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان .

وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسما أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم . وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر ، فإذا انسلخت قاتلهم وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله : ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) [ التوبة : 2 ] وهي الحرم المذكورة في قوله : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) [ التوبة : 5 ] فالحرم هاهنا : هي أشهر التسيير ، أولها يوم الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر ، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ) [ التوبة : 36 ] فإن تلك واحد فرد ، وثلاثة سرد : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم . ولم يسير المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ثم [ ص: 145 ] أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له ، أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم ، وضرب على أهل الذمة الجزية .

فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول ( براءة ) على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة ، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة ، والمحاربون له خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب .

وأما سيرته في المنافقين ، فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمره أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهاه أن يصلي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم ، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين .

التالي السابق


الخدمات العلمية