الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                القول الثاني : أن الأصل في العقود والشروط : الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا عند من يقول به . وأصول أحمد المنصوصة عنه : أكثرها يجري على هذا القول . ومالك قريب منه ; لكن أحمد أكثر تصحيحا [ ص: 133 ] للشروط . فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه .

                وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس ; لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص . وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة . فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص : فقد يضعفه أو يضعف دلالته . وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس . وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط . كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا فمالك يجوزه بقدر الحاجة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا . ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه . ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق ، فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والنقص منه بالشرط ; ما لم يتضمن مخالفة الشرع . كما سأذكره إن شاء الله .

                فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك [ ص: 134 ] الغير اتباعا لحديث جابر لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى المدينة .

                ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة واشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش .

                ويجوز - على عامة أقواله - : أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها . كما في حديث صفية . وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة ; كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع ; لكنه استثناها بالنكاح إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز بخلاف منفعة الخدمة .

                ويجوز أيضا للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته وغلته جميعها لنفسه لمدة حياته . كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك . وروي فيه حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه ؟ فيه عنه روايتان .

                ويجوز أيضا - على قياس قوله - استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة والصداق وفدية الخلع والصلح على القصاص ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك سواء كان بإسقاط كالعتق أو بتمليك بعوض كالبيع . أو بغير عوض كالهبة .

                [ ص: 135 ] ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح ; لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن أحق الشروط أن توفوا به : ما استحللتم به الفروج } ومن قال بهذا الحديث قال : إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة . وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح . فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق فتشترط أن لا تسافر معه ولا تنتقل من دارها ، وتزيد على ما يملكه بالإطلاق فتشترط أن تكون مخلية به فلا يتزوج عليها ولا يتسرى .

                ويجوز - على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه - أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة كاليسار والجمال ونحو ذلك ويملك الفسخ بفواته . وهو من أشد الناس قولا بفسخ النكاح وانفساخه فيجوز فسخه بالعيب كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه أن لا يتزوج عليها وبالتدليس كما لو ظنها حرة فظهرت أمة وبالخلف في الصفة على الصحيح كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر . وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت واشتراط الطلاق . وهل يبطل بفساد المهر كالخمر والميتة ونحو ذلك ؟ فيه عنه روايتان . إحداهما : نعم كنكاح الشغار . [ ص: 136 ] وهو رواية عن مالك . والثانية : لا ينفسخ ; لأنه تابع وهو عقد مفرد كقول أبي حنيفة والشافعي .

                وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلا أو تركا في المبيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه . وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق . وقد يروى ذلك عنه ; لكن الأول أكثر في كلامه . ففي جامع الخلال عن أبي طالب : سألت أحمد عن رجل اشترى جارية فشرط أن يتسرى بها : تكون جارية نفيسة يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة ؟ قال : لا بأس به . وقال مهنا : سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل جارية فقال له : إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني ؟ قال : لا بأس به ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط ; لأن ابن مسعود قال لرجل : لا تقربنها ولأحد فيها شرط . وقال حنبل : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : أن ابن مسعود اشترى جارية من امرأته وشرط لها : إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به . فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب . فقال : لا تنكحها وفيها شرط . وقال حنبل : قال عمي : كل شرط في فرج فهو على هذا . والشرط الواحد في البيع جائز إلا أن عمر كره لابن مسعود [ ص: 137 ] أن يطأها ; لأنه شرط لامرأته الذي شرط . فكره عمر أن يطأها وفيها شرط . وقال الكرماني سأل أحمد عن رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيعها ولا يهبها ؟ فكأنه رخص فيه . ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن ؟ فلا يقربها . يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب حين قال لعبد الله بن مسعود .

                فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول كالمقايلة . وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا الشرط وربما تأولوا قوله : " جائز " أي العقد جائز وبقية نصوصه تصرح بأن مراده " الشرط " أيضا . واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله : ثلاثة من الصحابة . وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه ولا يهبه أو يتسراها ونحو ذلك مما فيه تعيين لمصرف واحد كما روى عمر بن شبة في أخبار عثمان : أنه اشترى من صهيب دارا وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده .

                وجماع ذلك : أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة . فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه جوز أيضا استثناء بعض التصرفات .

                وعلى هذا فمن قال : هذا الشرط ينافي مقتضى العقد . قيل له : [ ص: 138 ] أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا ؟ فإن أراد الأول : فكل شرط كذلك . وإن أراد الثاني : لم يسلم له ; وإنما المحذور : أن ينافي مقصود العقد كاشتراط الطلاق في النكاح أو اشتراط الفسخ في العقد . فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده . هذا القول هو الصحيح : بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي .

                أما الكتاب : فقال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } والعقود هي العهود . وقال تعالى : { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } وقال تعالى : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا } وقال تعالى : { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا } فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد . وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله : { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع إنما أمر بالوفاء به ; ولهذا قرنه بالصدق في قوله { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل كما [ ص: 139 ] قال تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } { فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } وقال سبحانه : { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } قال المفسرون - كالضحاك وغيره - تساءلون به : تتعاهدون وتتعاقدون . وذلك : لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع ونحو ذلك وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة : كالرحم والمكسوبة : كالعقود التي يدخل فيها الصهر وولاية مال اليتيم ونحو ذلك .

                وقال سبحانه : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون } { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم } والأيمان : جمع يمين وكل عقد فإنه يمين . قيل : سمي بذلك ; لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين يدل على ذلك : قوله { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة } والإل : هو القرابة . والذمة : العهد - وهما المذكوران في قوله : { تساءلون به والأرحام } - إلى قوله { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } فذمهم الله على قطيعة الرحم ونقض الذمة . إلى قوله { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } وهذه نزلت في كفار مكة لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية . ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة .

                وأما قوله سبحانه { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } فتلك عهود جائزة ; لا لازمة فإنها كانت مطلقة . وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها . كالوكالة ونحوها .

                ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم : إن الهدنة لا تصح إلا مؤقتة : فقوله - مع أنه مخالف لأصول أحمد - يرده القرآن وترده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر المعاهدين فإنه لم [ ص: 141 ] يوقت معهم وقتا .

                فأما من كان عهده موقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } وقال : { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } وقال { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } فإنما أباح النبذ عند ظهور إمارات الخيانة ; لأن المحذور من جهتهم وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } الآية . وجاء أيضا في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري " إن في القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت كبراءة : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة وقال تعالى : { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } في سورتي المؤمنون والمعارج وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله : { إن الإنسان خلق هلوعا } { إذا مسه الشر جزوعا } { وإذا مسه الخير منوعا } { إلا المصلين } { الذين هم على صلاتهم دائمون } { والذين في أموالهم حق معلوم } { للسائل والمحروم } { والذين يصدقون بيوم الدين } { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } { إن عذاب ربهم غير مأمون } { والذين هم لفروجهم حافظون } { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } { [ ص: 142 ] فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وهذا يقتضي وجوب ذلك ; لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك ; ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب وكذلك في سورة المؤمنين قال في أولها : { أولئك هم الوارثون } { الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين ; لأن ظاهر الآية الحصر ; فإن إدخال الفصل بين المبتدأ والخبر يشعر بالحصر ومن لم يكن من وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة ; إلا أن يعفو الله عنه ; وإذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته : هي الوفاء به .

                ولما جمع الله بين العهد والأمانة جعل النبي صلى الله عليه وسلم ضد ذلك صفة المنافق في قوله : { إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر } وعنه { على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب } " وما زالوا يوصون بصدق الحديث وأداء الأمانة . وهذا عام . وقال تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين } { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر الله بصلته ; لأن الواجب إما بالشرع وإما بالشرط الذي عقده المرء باختياره .

                وقال أيضا : { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب } { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار } { جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } وقال : { أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } وقال { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } وقال تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } وقال : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } .

                وقال [ ص: 144 ] تعالى : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } .

                والأحاديث في هذا كثيرة مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق . حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر . وإذا خاصم فجر } " وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة } وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة } . وفي رواية : { لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة } وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله . وفيمن معه من المسلمين خيرا ثم قال : اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم - } الحديث " .

                [ ص: 145 ] فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول .

                وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم " هل يغدر ؟ فقال : لا يغدر ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة . وقال هرقل في جوابه : سألتك : هل يغدر ؟ فذكرت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر " فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين .

                وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن أحق الشروط أن توفوا به : ما استحللتم به الفروج } فدل على استحقاق الشروط بالوفاء وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها .

                وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر . ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره } " فذم الغادر . وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر .

                فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق [ ص: 146 ] والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك .

                ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشرع : لم يجز أن يأمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح ; بخلاف ما كان جنسه واجبا كالصلاة والزكاة فإنه يؤمر به مطلقا . وإن كان لذلك شروط وموانع . فينهى عن الصلاة بغير طهارة وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك . وكذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويجب السكوت أو التعريض .

                وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به : علم أن الأصل صحة العقود والشروط ; إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده . ومقصود العقد : هو الوفاء به . فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة .

                وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال : [ ص: 147 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا والمسلمون على شروطهم } . وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية : هو ثقة . وضعفه في رواية أخرى .

                وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما } " قال الترمذي : حديث حسن صحيح وروى ابن ماجه منه اللفظ الأول ; لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة . وضرب أحمد على حديثه في المسند ; فلم يحدث به . فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه . وقد روى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن بن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الناس على شروطهم ما وافقت الحق } وهذه الأسانيد - وإن كان الواحد منها ضعيفا - فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا .

                وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة وهو حقيقة المذهب ; فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما [ ص: 148 ] أباحه الله . فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله . وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله ; وإنما المشترط له أن يوجب الشرط ما لم يكن واجبا بدونه . فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا ; فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبا ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما . وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين . وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها ; فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك .

                وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط قال : لأنها إما أن تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع . وقد وردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض وليس كذلك ; بل كل ما كان حراما بدون الشرط : فالشرط لا يبيحه كالربا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق ; فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك ; بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز وكذلك الولاء [ ص: 149 ] فقد " { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته } " وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد . وقال صلى الله عليه وسلم { من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا } وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره أو انتساب المعتق إلى غير مولاه . فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما .

                وأما ما كان مباحا بدون الشرط : فالشرط يوجبه كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والرهن وتأخير الاستيفاء . فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ونحو ذلك فإذا شرطه صار واجبا وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه ; لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره .

                وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا : لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة [ ص: 150 ] والتحريم ; لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب .

                فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع . وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال عمر رضي الله عنه مقاطع الحقوق عند الشروط .

                وأما الاعتبار فمن وجوه : أحدها : أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية . والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم . كما أن الأعيان : الأصل فيها عدم التحريم . وقوله تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } عام في الأعيان والأفعال ; وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة .

                وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم . فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا كالأعيان التي لم تحرم .

                [ ص: 151 ] وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله فإنه يستدل أيضا به على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء سمى ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم ; فإن ما ذكره الله تعالى في القرآن من ذم الكافر على التحريم بغير شرع : منه ما سببه تحريم الأعيان ومنه ما سببه تحريم الأفعال . كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسيا ويأمرونه بالتعري إلا أن يعيره أحمسي ثوبه ويحرمون عليه الدخول تحت سقف كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مجبية ويحرمون الطواف بالصفا والمروة وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع . فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم .

                فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة وإن لم يثبت حلها بشرع خاص كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمروا بالوفاء بها وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله . لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه الله فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل [ ص: 152 ] شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله ; بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله ; فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به . فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر . وإن كان فيها قربة من وجه آخر . فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع . كالعتق والصدقة .

                فإن قيل : العقود تغير ما كان مشروعا ; لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال : فقد غير ما كان مشروعا ; بخلاف الأعيان التي لم تحرم . فإنه لا تغير في إباحتها .

                فيقال : لا فرق بينهما . وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون . فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع أو غيره لا يغيرها وهو من باب العقود . وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه : هو فعل من الأفعال مغير لحكمها بمنزلة العقود .

                وأيضا فإنها قبل الذكاة محرمة . فالذكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال . فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والذكاة : الأصل فيها الحل وإن غير حكم العين . فكذلك أفعالنا في الأملاك بالعقود [ ص: 153 ] ونحوها : الأصل فيها الحل . وإن غيرت حكم الملك له .

                وسبب ذلك : أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا لم يثبته ابتداء . كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة . فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ولم يحرم الشارع علينا رفعه : لم يحرم علينا رفعه فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره ; لإثباته سبب ذلك وهو الملك الثابت بالبيع . وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب ما لم يحرمه الشارع عليه . كمن أعطى رجلا مالا : فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه . وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطي ما لم يمنع منه مانع .

                وهذه نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها وهو أن الأحكام الجزئية - من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو - لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا وإنما شرعها شرعا كليا مثل قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا } وقوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } وقوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } . وهذا الحكم الكلي ثابت سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد . فإذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا . فهذا المعين سببه [ ص: 154 ] فعل العبد . فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الكلي إذ ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط لا أن الشارع أثبته ابتداء .

                وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام ; وليس كذلك ; فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته وهو الشارع . وأما هذا المعين فإنما ثبت لأن العبد أدخله في المطلق فإدخاله في المطلق إليه فكذلك إخراجه . إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا مثل أن يقول : هذا الثوب بعه أو لا تبعه أو هبه أو لا تهبه وإنما حكم على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين .

                فتدبر هذا وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد . وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا إلا ما خصه الدليل على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل ; بل والعقلاء جميعهم . وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذا ولإيجاب العقل أيضا .

                [ ص: 155 ] وأيضا فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين . وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد ; لأن الله قال في كتابه العزيز : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه . فدل على أنه سبب له وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب . فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم . وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات : قياسا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن . وكذلك قوله : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة . وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة أو طابت نفس المتبرع بتبرع : ثبت حله بدلالة القرآن ; إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك .

                وأيضا فإن العقد له حالان : حال إطلاق وحال تقييد . ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود . فإذا قيل : هذا شرط ينافي مقتضى العقد فإن أريد به : ينافي العقد المطلق . فكذلك كل شرط زائد . وهذا لا يضره وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد : احتاج إلى دليل على ذلك ; وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد .

                [ ص: 156 ] فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود ، فقد جمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه فلا يحصل شيء . ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق ; بل هو مبطل للعقد عندنا .

                والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق ; فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده فإن مقصوده الملك والعتق قد يكون مقصودا للعقد . فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا . فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد وإنما ينافي كتاب الله وشرطه . كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا . وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله . فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما فلم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه بل الواجب حله ; لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه ; فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه . ولم يثبت تحريمه فيباح ; لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج .

                وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو إما أن يقال : لا تحل ولا تصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص من نص أو إجماع أو [ ص: 157 ] قياس عند الجمهور . كما ذكرناه من القول الأول أو يقال : لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعي وإن كان عاما . أو يقال : تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام .

                والقول الأول : باطل ; لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم . فقال سبحانه في آية الربا : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا ; بل مفهوم الآية - الذي اتفق العمل عليه - يوجب أنه غير منهي عنه ; وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم ولم يأمرهم برد المقبوض . وقال صلى الله عليه وسلم { أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام } " وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية ولم يستفصل أحدا : هل عقد به في عدة أو غير عدة ؟ بولي أو بغير ولي ؟ بشهود أو بغير شهود ؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام كما { أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن } وكما { أمر فيروز الديلمي [ ص: 158 ] الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى } . وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس " أن يفارقوا ذوات المحارم " . ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع . ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع .

                فإن قيل : فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ثم أسلموا بعد زواله : مضت ولم يؤمروا باستئنافها ; لأن الإسلام يجب ما قبله فليس ما عقدوه بغير شرع بدون ما عقدوه مع تحريم الشرع وكلاهما عندكم سواء .

                قلنا : ليس كذلك ; بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به القبض وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ ; بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ ; لا قبل القبض ولا بعده ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده ; لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها . كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح . فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه - وإن لم يقترن بالآخر - أقرهم [ ص: 159 ] الشارع على ذلك ; بخلاف الأموال ; فإن المقصود بعقودها هو التقابض فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها فأبطلها الشارع ; لعدم حصول المقصود .

                فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم ; لأنه لا يصححه إلا بتحليل .

                وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها . فإن الفقهاء جميعهم - فيما أعلمه - يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد . ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله . فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود : لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد فإنه آثم وإن كان قد صادف الحق .

                وأما إن قيل : لا بد من دليل شرعي يدل على حلها سواء كان عاما أو خاصا فعنه جوابان : " أحدهما " المنع كما تقدم . " والثاني " أن نقول : قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة إلا ما استثناه الشارع . وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله . فلم يبق إلا [ ص: 160 ] القول الثالث وهو المقصود .

                وأما قوله صلى الله عليه وسلم { من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } فالشرط يراد به المصدر تارة والمفعول أخرى . وكذلك الوعد والخلف . ومنه قولهم : درهم ضرب الأمير والمراد به هنا - والله أعلم - المشروط ; لا نفس المتكلم . ولهذا قال : { وإن كان مائة شرط } أي : وإن كان مائة مشروط وليس المراد تعديد التكلم بالشرط . وإنما المراد تعديد المشروط . والدليل على ذلك قوله : { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } أي : كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه . وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه ; بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى .

                وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه حتى يقال : " { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } فيكون المعنى : من اشترط أمرا ليس في حكم الله أو في كتابه بواسطة أو بغير واسطة : فهو باطل ; لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط - وهو ثبوت الولاء لغير المعتق - شرطا ليس في كتاب الله .

                [ ص: 161 ] فانظر إلى المشروط إن كان فعلا أو حكما . فإن كان الله قد أباحه : جاز اشتراطه ووجب . وإن كان الله تعالى لم يبحه : لم يجز اشتراطه : فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته . فهذا المشروط في كتاب الله لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها . فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله .

                فمضمون الحديث : أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة أو يقال : ليس في كتاب الله : أي : ليس في كتاب الله نفيه كما قال { سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم } أي : بما تعرفون خلافه . وإلا فما لا يعرف كثير .

                ثم نقول : لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة بمعنى : أنه لا يلزم بها شيء لا إيجاب ولا تحريم فإن هذا خلاف الكتاب والسنة . بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام ; فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه وسماه منكرا من القول وزورا ثم إنه أوجب به على من عاد : الكفارة ومن لم يعد : جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء وترك العقد . وكذا النذر . فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر وقال : { إنه لا يأتي بخير } ثم أوجب الوفاء به إذا كان طاعة في [ ص: 162 ] قوله صلى الله عليه وسلم { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه .

                } فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم . نعم لا يكون سببا لإباحة كما أنه لما نهى عن بيع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك : لم يستفد المنهي بفعله لما نهى عنه الاستباحة ; لأن المنهي عنه معصية . والأصل في المعاصي : أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته . والإباحة من نعمة الله ورحمته وإن كانت قد تكون سببا للإملاء ولفتح أبواب الدنيا ; لكن ذلك قدر ليس بشرع ; بل قد يكون سببا لعقوبة الله تعالى . والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وإن كان قد يكون رحمة أيضا كما جاءت شريعتنا الحنيفية .

                والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص : فهو عقد حرام وكل عقد حرام فوجوده كعدمه وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم .

                وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية - إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن الشروط التي لم يبحها الله وإن كان لا يحرمها [ ص: 163 ] باطلة . - فنقول : قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها . وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة ; فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة . وذلك لأن قوله : { ليس في كتاب الله } " إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه فإن ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله ; لأن قولنا : هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص وبالعموم . وعلى هذا معنى قوله تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وقوله : { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء } وقوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } على قول من جعل الكتاب هو القرآن . وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ : فلا يجيء ههنا .

                يدل على ذلك : أن الشرط الذي ثبت جوازه بسنة أو إجماع : صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله . وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين . فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار .

                لأن جامع الجامع جامع ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار . [ ص: 164 ] يبقى أن يقال على هذا الجواب : فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل في العموم .

                فيقال : العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص ; فإن الخاص يفسر العام . وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله : { من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } .

                ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } .

                فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده دون من تبناه وحرم التبني . ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعي أخا في الدين ومولى كما { قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : أنت أخونا ومولانا } " . وقال صلى الله عليه وسلم { إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم . فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس .

                } فجعل سبحانه الولاء نظير النسب وبين سبب الولاء في قوله : [ ص: 165 ] { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد . فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد . فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق ; لأنه في معناه فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره : فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره .

                وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { إنما الولاء لمن أعتق } .

                وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه : لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها ; لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه فهذا هذا مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعنى الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله . والتحذير : من اشتراط شيء لم يبحه الله . فيكون المشروط قد حرمه ; لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه ; أو من اشتراط ما ينافي كتاب الله بدليل قوله : { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق . }

                التالي السابق


                الخدمات العلمية