الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2630 2631 2632 [ ص: 100 ] ص: وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذا نحو من ذلك .

                                                حدثنا عبد الله بن محمد بن خشيش ، قال : ثنا عارم ، قال : ثنا جرير بن حازم ، عن قيس ، عن عطاء ، " أن ابن عباس سلم عليه رجل وهو يصلي فلم يرد عليه شيئا ، وغمز بيده " . فهذا ابن عباس: - رضي الله عنهما - إنما لم يرد في صلاته على الذي سلم عليه وهو فيها ، ولكنه غمز بيده على الكراهية منه لما فعل فلما كان عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وقد كانا سلما على النبي - عليه السلام - وهو يصلي قد كرها من بعد رسول الله - عليه السلام - السلام على المصلي فثبت بذلك أن ما كان من إشارة النبي - عليه السلام - التي علماها لم تكن ردا وإنما كانت نهيا ; لأن الصلاة ليست بموضع سلام ; لأن السلام كلام ، فجوابه أيضا كذلك ، فلما كانت الصلاة ليست بموضع كلام ; لم تكن أيضا بموضع لرد سلام ، ولما لم تكن موضعا لرد سلام لم تكن موضعا للإشارة لرد السلام ، وذلك لأن رسول الله - عليه السلام - قد أمر بتسكين الأطراف في الصلاة .

                                                حدثنا بذلك فهد ، قال : ثنا محمد بن سعيد ، قال : أنا شريك ، عن الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن جابر بن سمرة قال : " دخل رسول الله - عليه السلام - المسجد فرأى قوما يصلون وقد رفعوا أيديهم ، فقال ما لي أراكم ترفعون أيديكم كأنها أذناب خيل شمس ، اسكنوا في الصلاة " . .

                                                فلما أمر رسول الله - عليه السلام - بالسكون في الصلاة ، وكان رد السلام بالإشارة فيه خروجا من ذلك لأن فيه رفع اليد وتحريك الأصابع ، ثبت بذلك أنه قد دخل فيما أمر به رسول الله - عليه السلام - من تسكين الأطراف في الصلاة ، وهذا القول الذي بينا في هذا الباب قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمهم الله .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روي عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - -فيما ذكرنا من إشارة النبي - عليه السلام - في الصلاة حين سلم عليه عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله كانت نهيا عن ذلك ولم تكن ردا للسلام- نحو من ذلك ، أي مثل ونظير لما ذكرنا ، بيانه : أن ابن عباس لما سلم عليه وهو في الصلاة لم يرد عليه وغمز بيده لأجل كراهته هذا الفعل منه ، فثبت من ذلك أن الإشارة في الصلاة لأجل رد السلام مكروهة لا ينبغي أن تفعل ، [ ص: 101 ] ألا ترى أن عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله سلما على النبي - عليه السلام - وهو في الصلاة ثم كرها من بعد رسول الله - عليه السلام - السلام على المصلي ، وذلك لكونهما قد علما أن الإشارة التي كانت من النبي - عليه السلام - حين سلما عليه وهو في الصلاة لم تكن لأجل الرد وإنما كانت لأجل النهي عن ذلك الفعل ، وذلك لأن الصلاة ليست بمحل للسلام ; لأن السلام كلام ، فجوابه أيضا يكون كلاما ، فلما ثبت أن الصلاة ليست بمحل للكلام ، لم تكن أيضا بمحل لرد السلام ; لأنه كلام كالسلام ، فإذا ثبت أنها ليست بمحل لرد السلام لم تكن أيضا بمحل للإشارة التي تكون لرد السلام ; لأنها تكون كرد السلام ، وقد قلنا : إن رد السلام كالكلام ، فالكلام ممنوع فالسلام مثله ، ورده كذلك سواء كان قولا أو إشارة ، والدليل على ذلك أيضا أن النبي - عليه السلام - قد أمر المصلي بتسكين أطرافه في الصلاة كما في حديث جابر بن سمرة ، ورد السلام بالإشارة تحريك للأطراف ; لأن فيها رفع اليد وتحريك الأصابع ، وهذا خلاف ما أمر به النبي - عليه السلام - ، وذلك لا يجوز ، والله أعلم .

                                                ثم إسناد أثر ابن عباس صحيح ، وقد مر غير مرة أن خشيشا بضم الخاء وفتح الشين الأولى وسكون الياء آخر الحروف ، وكلها معجمات ، وعارم -بالعين المهملة- لقب محمد بن الفضل شيخ البخاري ، وقيس هو ابن سعد من رجال مسلم ، وعطاء هو ابن أبي رباح .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " : ثنا وكيع ، قال : ثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء بن أبي رباح : "أن رجلا سلم على ابن عباس وهو في الصلاة فأخذ بيده فصافحه ، وغمز بيده " .

                                                وقال أيضا : ثنا حفص ، عن ليث ، عن عطاء قال : "سلمت على ابن عباس وهو في الصلاة فلم يرد علي ، وبسط يده إلي وصافحني " . [ ص: 102 ] وكذلك إسناد حديث جابر بن سمرة صحيح ، ومحمد بن سعيد بن سليمان الأصبهاني شيخ البخاري ، وشريك هو ابن عبد الله النخعي روى له الجماعة البخاري مستشهدا ومسلم في المتابعات.

                                                والأعمش هو سليمان بن مهران ، والمسيب بن رافع الأسدي الكاهلي روى له الجماعة.

                                                وأخرجه مسلم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب ، قالا: ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن تميم بن طرفة ، عن جابر بن سمرة قال: "خرج علينا رسول الله - عليه السلام - فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة. قال: ثم خرج علينا فرآنا حلقا ، فقال: ما لي أراكم عزين؟ قال: ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا: يا رسول الله ، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف".

                                                وأخرجه النسائي : أنا قتيبة ، قال: ثنا عبثر ، عن الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن تميم بن طرفة ، عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله - عليه السلام - ونحن رافعو أيدينا في الصلاة ، فقال: ما بالهم رافعين أيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس؟! اسكنوا في الصلاة" . انتهى .

                                                وهذا كما رأيت قد وقع في روايتي مسلم والنسائي بين المسيب بن رافع وبين جابر بن سمرة تميم بن طرفة ، وليس هو بمذكور في رواية الطحاوي ، وكل منهما قد روى عن جابر بن سمرة فسنده أعلى من سندهما . [ ص: 103 ] قوله : "وقد رفعوا أيديهم" جملة حالية .

                                                قوله : "شمس" بضم الشين المعجمة وسكون الميم وبضمها أيضا جمع أشمس ، وهو النفور من الدواب الذي لا يستقر لشغبه وحدته ، وقال الجوهري : فرس شموس أي صعب الخلق ، ولا تقل شموص

                                                قوله : "اسكنوا" أمر من سكن يسكن ، أي اثبتوا ولا تتحركوا ، ولا تحركوا أطرافكم بل لازموا السكون والقرار; لأنكم بين يدي ربكم جلت قدرته .

                                                ويستفاد منه أحكام :

                                                الأول : أن فيه دلالة على أن رد السلام بالإشارة في الصلاة مكروه ; لأنه مأمور بالسكون وهو عدم الحركة ، فإذا أشار احتاج إلى رفع اليد وتحريك الأصابع ، كما ذكرناه .

                                                الثاني : استدل به بعض أصحابنا على ترك رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه ، واعترض عليه البخاري في كتابه الذي وضعه في رفع اليدين بأن هذا كان في التشهد لا في القيام ، تفسره رواية عبد الله بن القبطية قال : سمعت جابر بن سمرة يقول : "كنا إذا صلينا خلف النبي - عليه السلام - قلنا السلام عليكم السلام عليكم ، وأشار بيده إلى الجانبين ، فقال : ما بال هؤلاء يومئون بأيديهم كأنها أذناب خيل شمس ؟! إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله" . وهذا قول معروف لا اختلاف فيه ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات أيضا منهيا عنه ; لأنه لم يستثن رفعا دون رفع ، بل أطلق .

                                                والجواب عن هذا : أن هذين حديثان لا يفسر أحدهما بالآخر ، وقد جاء في الحديث الأول : "دخل رسول الله - عليه السلام - المسجد ، فرأى قوما يصلون وقد رفعوا أيديهم" وهذا ظاهره أنهم كانوا في حالة الركوع والسجود ونحو ذلك ، والراوي روى هذا في وقت كما شاهده وروى الآخر في وقت آخر كما شاهده ، وقد ذكر ابن القصار أن هذا [ ص: 104 ] الحديث حجة في النهي عن رفع الأيدي في الصلاة ، وذكر أن في ذلك نزلت ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة

                                                الثالث : فيه أن الإمام إذا رأى شيئا منكرا يفعله القوم في الصلاة ينهاهم عن ذلك ، فبالقياس على ذلك وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل أحد يقدر على ذلك ، والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية