الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وإذا تكارى الرجل الأرض ذات الماء من العين أو النهر أو عثريا أو غيلا أو الآبار ، على أن يزرعها غلة شتاء وصيف فزرعها إحدى [ ص: 456 ] الغلتين ، والماء قائم ثم نضب الماء فذهب قبل الغلة الثانية فأراد رد الأرض لذهاب الماء عنها ، فذلك له ويكون عليه من الكراء بحصة ما زرع إن كان الثلث أو أكثر أو أقل ، وسقطت عنه حصة ما لم يزرع : لأنه لا صلاح للزرع إلا به " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا استأجر أرضا فلا بد من ذكر ما قد استأجرها له من زرع أو غرس أو بناء ، فإن أغفل ذكر ما يستأجرها له بطلت الإجارة لاختلافه ، ثم لا يذكر ذلك بلفظ الشرط بل يقول : " لتزرع " فإن أخرجها مخرج الشرط ، فقال : " على أن تزرعها " بطلت الإجارة : لأنه إذا جعله شرطا لزمه ، والمستأجر لا يلزمه استيفاء المنفعة ، وإنما هو إذا مكن منها مخير بين استيفائها أو تركها ، ألا ترى أن من استأجر دارا للسكنى كان مخيرا بين سكناها وتركها ، فإن شرط عليه سكناها في العقد فقيل فيه : " على أن يسكنها " بطلت الإجارة . فإذا استأجر أرضا سنة لزرعها غلة شتاء وصيف ، فلا بد أن يكون لها وقت العقد ماء قائم يسقي به الزرع من عين ، أو نهر ، أو نيل ، أو عثري ، وهو : الماء المجتمع في أصول الجبال ، أو على رؤوسها ، أو غيلا ، وهو : السيح الجاري ، سمي سيحا : لأنه يسيح في الأرض ، أو غللا وهو : الماء بين الشجر . وإنما افتقر عقد الإجارة عليها إلى وجود الماء لزرعها : لأن الزرع لا ينبت في جاري العادة إلا بماء يسقيه ، فلزم أن يكون لها ماء يمكن معه استيفاء المنفعة منها : لأن على المؤجر تمكين المستأجر من استيفاء المنفعة فبطلت الإجارة ، وهكذا لو كان سقى زرعه بعلا ، أو عذيا ، والبعل : ما شرب بعروقه ، والعذي : ما سقته السماء ، فهي كالأرض التي لا ماء لها : لأنه غير قائم فيها ، وقد يكون ولا يكون ، فلا يصح إجارتها للزرع . فإذا استأجرها ولها ماء قائم فزرعها إحدى الغلتين ، ثم نضب الماء ، أو نقص ، أو ملح وتعذر عليه لأجل ذلك زرع الغلة الثانية نظر ، فإن توصل المؤجر إلى إعادة الماء بحفر نهر ، أو بئر ، أو استنباض عين فالإجارة بحالها ، ولا خيار للمستأجر فيها .

                                                                                                                                            وإن تعذر عليه إعادة الماء ، أو أمكنه فلم يفعل لم يجبر عليه ، كما لا يجبر على بناء الدار إذا انهدمت ، ولا يجبر البائع على مداواة العبد المبيع إذا ظهر به مرض . ثم للمستأجر الخيار مع بقاء العقد بين المقام عليه أو الفسخ ، لما حدث من النقص بتعذر التمكين .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهلا بطلت الإجارة بانقطاع الماء عنها كما لو انهدمت الدار ، أو مات العبد ، قيل : الفرق بينهما أن الأرض المستأجرة باقية مع انقطاع الماء عنها ، والدار تالفة بانهدامها ، وكذلك العبد بموته ، فلم تبطل الإجارة بانقطاع الماء عن الأرض ، وإن بطلت بانهدام الدار وموت العبد ، واستحق المستأجر الخيار للنقص الداخل عليه ، فإن أقام فعليه الأجرة المسماة ، وإن فسخ فله فسخ الإجارة فيما بقي من المدة ، وفي جواز فسخها فيما مضى وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : ليس له ذاك : لأنه قد صار مستهلكا لما مضى من المدة باستيفائها ، ومن استهلك معقودا عليه لم يستحق خيارا في فسخه ، فعلى هذا يقيم على ما مضى من المدة بحصته من الأجرة ، ويرجع لباقي المدة بحصته من الأجرة .

                                                                                                                                            [ ص: 457 ] والوجه الثاني : له الخيار في فسخ ما مضى كما كان له الخيار في فسخ ما بقي : لأنها صفقة فلم يفترق حكمها في الخيار ، فعلى هذا إن فسخ في الجميع رجع بالمسمى ، وكان عليه أجرة المثل فيما مضى ، وإن أقام على ما مضى وفسخ فيما بقي ، لزمه من الأجرة بقسط ما مضى ، ورجع منها بقسط ما بقي ، وقد خرج قول آخر : أنه يقيم على ما مضى بكل الأجرة ، وإلا فسخ وهذا ليس بصحيح .

                                                                                                                                            فإذا أراد أن يرجع بحصة ما بقي لم يقسط ذلك على المدة ، وإنما يقسط على أجرة المثل ، فإذا كان الماضي من المدة نصفها لم يرجع بنصف الأجرة ، وقيل : كم تساوي أجرة مثل المدة الماضية ؟ فإذا قيل : عشرون دينارا ، قيل : وكم تساوي أجرة مثل المدة الباقية ؟ فإذا قيل : عشرة دنانير ، رجع بثلث الأجرة ، ولو كان أجرة ما مضى عشرة وأجرة ما بقي عشرين ، رجع بثلثي الأجرة : لأنه قد تختلف أجرة مثل المدتين ، فلم يجز أن يقسط على أعدادها ، ولزم أن يقسط على أجور أمثالها ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية