الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

وقوله : " ولا تفسد العقود بأن يقال : هذه ذريعة وهذه نية سوء - إلى آخره " فإشارة منه إلى قاعدتين : إحداهما أن لا اعتبار بالذرائع ولا يراعى سدها ، والثانية : أن القصود غير معتبرة في العقود ، والقاعدة المتقدمة أن الشرط المتقدم لا يؤثر ، وإنما التأثير للشرط الواقع في صلب العقد ، وهذه القواعد متلازمة ; فمن سد الذرائع اعتبر المقاصد وقال : يؤثر الشرط متقدما ومقارنا ، ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة ، ولا يمكن إبطال واحدة منها إلا بإبطال جميعها ، ونحن نذكر قاعدة سد الذرائع ودلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها

فصل في سد الذرائع

[ للوسائل حكم المقاصد ]

لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها ، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها ; فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود ، لكنه [ ص: 109 ] مقصود قصد الغايات ، وهي مقصودة قصد الوسائل ; فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها ، تحقيقا لتحريمه ، وتثبيتا له ، ومنعا أن يقرب حماه ، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم ، وإغراء للنفوس به ، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء ، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ; فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا ، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده . وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه ، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه . فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها ، والذريعة : ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء

ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه ، فنقول

[ أنواع الوسائل وحكم كل نوع منها ]

الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان ; أحدهما : أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر ، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية ، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ، ونحو ذلك ; فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها ، والثاني : أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب ، فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه ; فالأول كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل ، أو يعقد البيع قاصدا به الربا ، أو يخالع قاصدا به الحنث ، ونحو ذلك ، والثاني كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي ، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم ، أو يصلي بين يدي القبر لله ، ونحو ذلك . ثم هذا القسم من الذرائع نوعان ; أحدهما : أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته ، والثاني : أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته ; فهاهنا أربعة أقسام الأول وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة ، الثاني : وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة ، الثالث : وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها ، الرابع : وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها ، فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم ، ومثال الثالث الصلاة في أوقات النهي ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم ، وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها ، وأمثال ذلك ، ومثال الرابع [ ص: 110 ] النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها ويعاملها ، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك ; فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة ، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة ، بقي النظر في القسمين الوسط : هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما ؟ فنقول :

التالي السابق


الخدمات العلمية