الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( القاعدة الثانية ) الواجب فيه وهذا هو الواجب الموسع فإذا أوجب الله تعالى الظهر من أول القامة إلى آخرها فقد اختلف العلماء فيه على سبعة مذاهب وتحريرها أن القائل قائلان قائل بالوجوب الموسع وقائل بجحده والأولون لهم قولان : أحدهما أنه يفتقر إلى العزم إذا تأخر والآخر أنه لا يفتقر ولا يجب العزم فهذان قولان والقائلون بجحده منهم [ ص: 76 ] بعض الشافعية قال يتعلق الوجوب بأول الوقت معتمدا على أن الوجوب مع جواز التأخير متنافيان والأصل ترتب المسبب على سببه والزوال سبب فيكون الوجوب الذي هو مسببه أول الوقت وما يقع بعد ذلك قضاء يسد مسد الأداء فهذا مستنده ويرد عليه أن الإذن في تفويت الأداء لفعل القضاء من غير ضرورة خلاف قواعد الشرع نعم يجوز الإذن في تفويت الأداء لفعل القضاء لضرورة السفر أو المرض كما في رمضان أو غيره من العبادات التي يجوز ترك أدائها للقضاء لأجل العذر أما لغير عذر فغير معهود في الشريعة وأخفق الناس كلهم على جواز تأخير الصلاة عن أول الوقت فهذا مستند هذا المذهب وما عليه من القول المذهب الثاني لبعض الحنفية أن الوجوب متعلق بآخر الوقت ومستنده أنا نستدل بثبوت خصيصة الشيء على ثبوته وبعدم خصيصة الشيء على عدمه .

ومن خصائص الوجوب العقاب على تقدير الترك ووجدنا هذه الخصيصة منتفية في غير آخر الوقت فقلنا بنفي الوجوب في غير آخر الوقت ووجدناها آخر الوقت فقلنا بالوجوب في آخر الوقت وإن وقع الفعل قبل ذلك كان نفلا يسد مسد الفرض ويرد عليه أن إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب خلاف القواعد والمذهب الثالث مذهب الكرخي أن الفعل موقوف إذا عجله المكلف فإن جاء آخر الوقت وفاعله موصوف بصفات المكلفين كان فعله هذا واجبا فما أجزأ عن الواجب إلا واجب وإن لم يكن موصوفا بصفات المكلفين كان نفلا ؛ لأنه وقع قبل وقت الوجوب وسبب هذا المذهب عند الكرخي أن من الحنفية من يقول يتعلق الوجوب بآخر الوقت ورأى ما ورد على الحنفية من إجزاء النفل عن الفرض فاختار هذه الطريقة ويرد عليه أن يكون الفعل حالة الإيقاع لا يوصف بكونه فرضا ولا نفلا ولا تتعين فيه نية لأحدهما خلاف المعهود في القواعد .

والمذهب الرابع للحنفية أيضا أن المكلف إن عجل الفعل منع تعجيله من تعليق الوجوب بآخر الوقت فلا يجزئ نفل عن فرض ولا يكون موقوفا بل ينوي به النفل وإن لم يعجله كان آخر الوقت واجبا موصوفا بصفة الوجوب فلا يرد عليه ما ورد على الكرخي ويرد عليه أن النبي عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم لم يطيعوا الله تعالى بصلاة واجبة ولا أثيبوا ثواب الواجب على شيء منها وذلك حظ عظيم يفوت عليهم لا سيما مع قوله عليه السلام عن ربه عز وجل { ما تقرب إلي عبد أو أحد بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } الحديث المشهور فثواب الواجبات هو أفضل المثوبات فالقول بفواته عليهم محذور كبير .

المذهب الخامس حكاه سيف الدين في الأحكام أن [ ص: 77 ] الوجوب متعلق بوقت الإيقاع أي وقت كان أوله أو وسطه أو آخره فلا يلزم شيء من الإشكالات المتقدمة ويرد عليه أن شأن الوجوب أن يكون متقدما على الفعل ويكون الفعل متأخرا عن الوجوب وتابعا ، أما كون الوجوب تابعا للفعل فغير معهود في الشريعة وعنده الوجوب في هذا الوقت وتحتم الإيقاع فيه تابع للفعل فكان ذلك على خلاف القواعد فهذا هو مستند كل واحد منها وما فيه من المخالفات للقواعد فلم يبق إلا القولان اللذان في التوسعة والقول فيهما أن الوجوب في الخارج متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء القامة الكائنة بين طرفي القامة كالواجب المخير ومعنى ذلك أن صاحب الشرع قال صل إما في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره فالواجب الصلاة في أحد هذه الأزمنة وهو قدر مشترك بينهما كما أن الواجب في الموسع هو أحد الخصال فيكون الوجوب مرتبا على الزوال في القدر المشترك ويجوز التأخير لبقاء المشترك ويبرأ بالفعل أول الوقت لوجود المشترك فيه وأي وقت فعل فيه صادف المشترك فلا يلزم تأخير المسبب عن سببه ولا أن الفعل بعد أول الوقت قضاء وأوله نفل ينوب مناب الفرض ولا يلزم مخالفة قاعدة من تلك القواعد التي لزمت الأقوال الأول بل تجتمع أسباب تلك القواعد كلها .

وهذا هو الحق غير أن أرباب هذا المذهب اختلفوا إذا قصد التأخير لوسط الوقت أو آخره هل يجوز ذلك لغير بدل هو العزم ؛ لأن الأمر ما دل إلا على الصلاة ، أما هذا العزم فلم يدل عليه دليل فوجب نفيه أو لا بد من العزم على الفعل في بقية الوقت ؛ لأن من أمره سيده فلم يفعل ولم يعزم على الفعل في مستقبل الزمان يعد معرضا عن أمر سيده والإعراض عن الأمر حرام وما يندفع به الحرام واجب فالعزم واجب واختار الغزالي طريقة وسطى وهي الفرق بين الغافل عن الفعل والترك لا يجب عليه العزم وبين من خطر بباله الفعل والترك فهذا إن لم يعزم على الفعل عزم على الترك بالضرورة فيجب عليه العزم على الفعل وهي طريقة حسنة .

( فرع ) مرتب إذا قلنا بالتوسعة فهل ذلك مشروط بسلامة العاقبة فإن مات قبل الفعل فقد أخر مختارا يأثم وهو قول الشافعية أو لا يأثم ؛ لأن صاحب الشرع أذن له في التأخير فهو فعل ما أذن له فيه وفعل المأذون فيه لا إثم فيه والأصل عدم اشتراط سلامة العاقبة وهو مذهب المالكية وهو الصحيح من جهة النظر فهذا هو قاعدة الواجب فيه وهو القدر المشترك وهو كلي لا جزئي على المذهبين الأخيرين .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( القاعدة الثانية الواجب فيه وهذا هو الواجب الموسع إلى آخر ما قال فيه ) .

قلت ما قاله من حكاية المذاهب ورد ما رده منها صحيح وما مال إلى تحسينه من قول الغزالي ليس بصحيح إنما الصحيح أن لا حاجة إلى بدل أصلا [ ص: 76 ] وما قاله من تعلق الوجوب بالقدر المشترك إن أراد الكلي فليس ذلك بصحيح وإن أراد تعلق الوجوب بفرد مما فيه المشترك فذلك صحيح وما اختاره وصححه ونسبه إلى المالكية في مسألة [ ص: 77 ] المؤخر الذي يموت قبل الفعل صحيح .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( القاعدة الثانية ) الواجب فيه هو الواجب الموسع كإيجاب الله تعالى الظهر من أول القامة إلى آخرها وقد اختلف الفقهاء في القول به وبجحده وعلى الأول إذا قصد التأخير لوسط الوقت أو آخره فهل يجوز له ذلك بغير بدل هو العزم لعدم دليل عليه ؛ إذ الدليل إنما هو على الصلاة فوجب نفيه أو لا بد من العزم على الفعل في بقية الوقت ؛ لأن من أمره سيده فلم يفعل ولم يعزم على الفعل في مستقبل الزمان يعد معرضا عن أمر سيده والإعراض عن الأمر حرام وما يندفع به الحرام واجب فالعزم واجب قولان ثالثها للغزالي وجوب العزم على من خطر بباله الفعل والترك ؛ لأنه إن لم يعزم على الفعل عزم على الترك بالضرورة بخلاف الغافل عن الفعل والترك قال ابن الشاط والصحيح أن لا حاجة إلى بدل أصلا وعلى الثاني ففي متعلق الوجوب خمسة مذاهب :

( المذهب الأول ) لبعض الشافعية أن متعلقه أول الوقت مستندا إلى أن الوجوب ينافي جواز التأخير وأن الزوال سبب الوجوب والأصل ترتب المسبب على سببه فيكون الوجوب أول الوقت وما يقع بعد ذلك قضاء يسد مسد الأداء ويرد عليه أن الإذن في تفويت الأداء لفعل القضاء من غير ضرورة خلاف قواعد الشرع وإنما المعهود في قواعد الشريعة أن الإذن في ذلك إنما يكون لأجل العذر كضرورة السفر أو المرض في رمضان أو غيره من العبادات .

( المذهب الثاني ) لبعض الحنفية أن متعلقه آخر الوقت مستند إلى أن ثبوت خصيصة الشيء يستدل به على عدم ثبوته وعدم خصيصته يستدل به على عدمه والعقاب على تقدير الترك من خصائص الوجوب وهو منتف في غير آخر الوقت وثابت في آخره فيستدل بثبوته آخر الوقت على ثبوت الوجوب آخر الوقت وبنفيه في غير آخر الوقت على نفي الوجوب في غير آخر الوقت ، فإذا وقع الفعل قبل آخر الوقت [ ص: 90 ] كان نفلا يسد مسد الفرض ويرد عليه أن إجراء ما ليس بواجب عن الواجب خلاف القواعد .

( المذهب الثالث ) للكرخي أن متعلقه آخر الوقت أيضا إلا أنه بطريقة أخرى وهي أن المكلف إذا عجل الفعل فإن جاء آخر الوقت وهو موصوف بصفات المكلفين كان فعله واجبا فما أجزأ عن الواجب إلا واجب وإن جاء آخر الوقت وهو غير موصوف بها كان نفلا ؛ لأنه وقع قبل وقت الوجوب وسبب اختياره هذه الطريقة الخروج من عهدة ما أورد على من قال من الحنفية بتعلق الوجوب بآخر الوقت من إجزاء النفل عن الفرض كما علمت مع أنه يرد عليه أن كون الفعل حالة الإيقاع لا يوصف بكونه فرضا ولا نفلا ولا تتعين فيه نية لأحدهما خلاف المعهود في القواعد .

( المذهب الرابع ) لبعض الحنفية أيضا أن متعلقه آخر الوقت حيث لم يعجل المكلف الفعل بعد فعله آخر الوقت فصار آخر الوقت موصوفا بالوجوب فإن عجل المكلف الفعل لم يكن آخر الوقت موصوفا بصفة الوجوب فالتعجيل مانع من تعليق الوجوب بآخر الوقت فلم يجز نفل عن فرض ولم يكن الفعل المعجل موقوفا بل ينوي به النفل نعم يرد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يطيعوا الله تعالى بصلاة واجبة ولا أثيبوا ثواب الواجب على شيء منها وذلك حظ عظيم يفوت عليهم لا سيما وقد قال عليه الصلاة والسلام عن ربه عز وجل { ما تقرب إلي عبد أو أحد بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } الحديث المشهور وبالجملة فثواب الواجبات هو أفضل المثوبات والقول بفواته عليهم محذور كبير .

( المذهب الخامس ) حكاه سيف الدين في الأحكام أن متعلقه وقت الإيقاع أي وقت كان أوله أو وسطه أو آخره فلا يلزم شيء من الإشكالات المتقدمة لكن يرد عليه أن القواعد تقتضي أن يكون الوجوب متقدما على الفعل والفعل متأخرا عنه وتابعا له وهذا المذهب جعل تحتم الإيقاع في الوقت تابعا للفعل على خلاف القواعد فظهر أن في كل من الأقوال الخمسة المبنية على جحد التوسعة مخالفات للقواعد ولم يبق غير مخالف لقاعدة ما بل تجتمع أسباب القواعد كلها فيه إلا الأقوال الثلاثة المبنية على التوسعة وأن الوجوب متعلق بالمطلق [ ص: 91 ] أعني جزءا مبهما من الأجزاء الكائنة بين طرفي القامة كالواجب المخير ومعنى ذلك أن صاحب الشرع قال : صل إما في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره فالواجب الصلاة في أحد هذه الأزمنة غير معين كما أن الواجب المخير في كفارة اليمين هو أحد الخصال غير معين فيكون الوجوب مرتبا على الزوال في جزء مبهم مما بين طرفي القامة فأي جزء صلى فيه صادف المطلق الذي تعلق به الوجوب ولم يلزم تأخير المسبب عن سببه ولا أن الفعل بعد أول الوقت قضاء ولا أنه في أوله نفل ينوب مناب الفرض حتى يكون مخالفا لقاعدة من تلك القواعد التي لزمت مخالفتها للأقوال الخمسة المارة فالقول بالتوسعة هو الحق وقد مر عن ابن الشاط أن الصحيح من الأقوال الثلاثة فيما إذا قصد المكلف التأخير لوسط الوقت أو آخره القول بأنه لا حاجة إلى بدل أصلا وبقي أنه على القول بالتوسعة هل يشترط سلامة العاقبة فإن مات قبل الفعل وقد أخر مختارا يأثم أو لا يشترط سلامة العاقبة فلا يأثم إذا مات قبل الفعل وقد أخر مختارا قولان الأول للشافعية والثاني للمالكية وهو الصحيح من جهة النظر ؛ لأن صاحب الشرع أذن له في التأخير وقد فعل ما أذن له فيه وفعل المأذون فيه لا إثم فيه والأصل عدم اشتراط سلامة العاقبة .




الخدمات العلمية