الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا يجوز بيع الآبق ) لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عنه ولأنه لا يقدر على تسليمه ( إلا أن يبيعه من رجل زعم أنه عنده ) لأن المنهي عنه بيع آبق مطلق وهو أن يكون آبقا في حق المتعاقدين وهذا غير آبق في حق المشتري ; ولأنه إذا كان عند المشتري انتفى العجز عن التسليم وهو المانع ، ثم لا يصير قابضا بمجرد العقد إذا كان في يده وكان أشهد عنده أخذه لأنه أمانة عنده وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض البيع ، ولو كان لم يشهد يجب أن يصير قابضا لأنه قبض غصب ، لو قال هو [ ص: 422 ] عند فلان فبعه مني فباعه لا يجوز لأنه آبق في حق المتعاقدين ولأنه لا يقدر على تسليمه .

ولو باع الآبق ثم عاد من الإباق لا يتم ذلك العقد ; لأنه وقع باطلا لانعدام المحلية كبيع الطير في الهواء . وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يتم العقد إذا لم يفسخ لأن العقد انعقد لقيام المالية والمانع قد ارتفع وهو العجز عن التسليم ، كما إذا أبق بعد البيع ، وهكذا [ ص: 423 ] يروى عن محمد رحمه الله .

التالي السابق


( قوله ولا يجوز بيع الآبق ) الآبق إذا لم يكن عند المشتري لا يجوز بيعه باتفاق الأئمة الأربعة ويجوز عتقه ، غير أنه إذا أعتقه عن كفارة اشترط العلم بحياته وتجوز هبته لابنه الصغير أو ليتيم في حجره ، بخلاف البيع لابنه الصغير حيث لا يجوز ; لأنه شرط القدرة على التسليم عقيب البيع وهو منتف ، وما بقي له من اليد يصلح لقبض الهبة ولا يصلح لقبض البيع لأنه قبض بإزاء مال مقبوض من مال الابن ، وهذا قبض ليس بإزائه مال يخرج من مال الولد فكفت تلك اليد له نظرا [ ص: 422 ] للصغير ، فإنه لو عاد عاد على ملك الصغير ولهذا أجزنا بيعه ممن ذكر أنه في يده لثبوت التسليم ، والمقصود من القدرة على التسليم ثبوت التسلم ، فإذا كان ثابتا حصل المقصود ، بخلاف ما لو جاء المشتري برجل معه وقال عبدك الآبق عند هذا فبعنيه وأنا أقبضه منه واعترف ذلك الرجل لا يجوز بيعه ; لأن تسليمه فعل غيره وهو لا يقدر على فعل غيره فلا يجوز . وإذا جاز بيعه هل يصير قابضا في الحال ، حتى لو رجع فوجده هلك بعد وقت البيع يتم القبض والبيع إن كان حين قبضه أشهد أنه قبض هذا ليرده على مالكه لا يصير قابضا ; لأن قبضه هذا قبض أمانة ، حتى لو هلك قبل أن يصل إلى سيده لا يضمنه ، وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض البيع ، فإن هلك قبل أن يرجع إليه انفسخ البيع ورجع بالثمن .

وإن لم يشهد يصير قابضا ; لأن قبضه إذا لم يشهد قبض غصب وهو قبض ضمان كقبض البيع ، ولو عاد من إباقه وقد باعه ممن ليس عنده هل يعود البيع جائزا إذا سلمه ؟ فعلى ظاهر الرواية لا يعود صحيحا وهو مروي عن محمد ، كما إذا باع خمرا فتخللت قبل التسليم أو باع طيرا في الهواء ثم أخذه لا يعود صحيحا ، وهذا يفيد أن البيع باطل ، وهو مختار مشايخ بلخ والثلجي ; لأن وجود الشرط يجب كونه عند العقد ، وفي رواية أخرى عن محمد وهو رواية عن أبي حنيفة يجوز لقيام المالية والملك في الآبق ، ولذا صح عتقه فكان كبيع المرهون إذا افتكه قبل الخصومة وفسخ القاضي للبيع ، وبه أخذ الكرخي وجماعة من المشايخ حتى إذا امتنع البائع من تسليمه أو المشتري من قبوله أجبر على ذلك ; لأن صحة البيع كانت موقوفة على القدرة على التسليم وقد وجد قبل الفسخ ، بخلاف ما إذا رجع بعد أن فسخ القاضي البيع أو تخاصما فإنه لا يعود صحيحا اتفاقا ، وهذا يقتضي أن البيع فاسد ; فالحق أن اختلاف الرواية والمشايخ فيه بناء على الاختلاف في أنه باطل أو فاسد ، فإنك علمت أن ارتفاع المفسد في الفاسد يرده صحيحا ; لأن البيع قائم مع الفساد ، وارتفاع المبطل لا يرجع ; لأن البيع لم يكن قائما بصفة البطلان بل معدوما ، فوجه البطلان عدم القدرة على التسليم . ووجه الفساد قيام المالية والملك .

والوجه عندي أن عدم القدرة على التسليم مفسد لا مبطل وهذا مما يخرج فيه الخلاف ، فإنهم اختلفوا في بيع الطير في الهواء وإن كان أخذه ثم أرسله فإنه لا يخرج عن ملكه ، وقد اختلفوا فيما لو أخذه بعد بيعه وسلمه ; فطائفة مع الكرخي يعود جائزا والبلخيون لا يعود جائزا ، فبالضرورة أن من قال بالجواز قائل بأنه فاسد مع عدم القدرة على التسليم ، وقول من [ ص: 423 ] قال المحلية كونه مالا مملوكا مقدور التسليم ، إن عني محلية البيع الصحيح فنعم وإلا فلا ، بل محل البيع المال المملوك للبائع أو غيره ، فإن كان له فنافذ أو لغيره فموقوف ، والنافذ إما صحيح إن كان مبيعه مقدور التسليم ليس فيه شرط فاسد وإلا ففاسد . وأما حديث النهي عن الآبق فروى إسحاق بن راهويه : أخبرنا سويد بن عبد العزيز الدمشقي قال : حدثنا جعفر بن الحارث أبو الأشهب الواسطي قال : حدثني من سمع محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سعيد الخدري { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع ، وعما في ضروعها ، وعن بيع العبد وهو آبق } ورواه ابن ماجه بسند فيه جهضم بن عبد الله عن محمد بن إبراهيم عن محمد بن زيد العبدي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري يرفعه إلى أن قال : { وعن شراء العبد وهو آبق ، وعن شراء المغانم حتى تقسم ، وعن شراء الصدقات حتى تقبض ، وعن ضربة القانص } وشهر مختلف فيه . وقال أبو حاتم : إن محمد بن إبراهيم مجهول ، وقيل فيه انقطاع أيضا ، وعلى كل حال فالإجماع على ثبوت حكمه دليل على أن هذا المضعف بحسب الظاهر صحيح في نفس الأمر




الخدمات العلمية