الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4214 [ 2183 ] وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يقول لأصحابه: "من رأى منكم رؤيا فليقصها أعبرها؟ ". قال فجاء رجل فقال: يا رسول الله، رأيت ظلة تنطف السمن والعسل، فإذا الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلا. قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله لتدعني فلأعبرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعبرها". قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أخطأت أم أصبت؟

                                                                                              قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا". قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت، قال: "لا تقسم".


                                                                                              رواه البخاري (7046)، ومسلم (2269)، وأبو داود (4632)، والترمذي (2294)، وابن ماجه (3918).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: كان مما يقول لأصحابه ) قال القاضي أبو الفضل : معنى (مما) هاهنا عندهم: كثيرا ما كان يفعل كذا. قال ثابت في مثل هذا: كأنه يقول: هذا من شأنه، ودأبه، فجعل (ما) كناية عن ذلك. يريد: ثم أدغم (من) فقال: مما يقول. وقال غيره: معنى (ما) هاهنا: ربما؛ لأن ربما تأتي للتكثير.

                                                                                              قلت: وهذا كلام جملي لم يحصل به بيان تفصيلي، فإن هذا الكلام من السهل جملة الممتنع تفصيلا. وبيانه بالإعراب، وذلك: أن اسم كان مستتر فيها يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وخبرها في الجملة التي بعدها، وذلك: أن (ما) من (مما) بمعنى: الذي، وهي مجرورة ب (من) وصلتها: يقول، والعائد محذوف. وهذا المجرور: خبر المبتدأ الذي هو: من رأى منكم رؤيا، فإنه كلام محكي معمول للقول، تقديره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة القول الذي يقوله هذا القول. ويجوز أن تكون مصدرية، ويكون تقديرها: كان النبي صلى الله عليه وسلم من جملة قوله: " من رأى منكم رؤيا " و " من " في كلا الوجهين: استفهام محكي. والله تعالى أعلم. وأبعد ما قيل فيها: قول من قال: إن " من " بمعنى: ربما، إذ لا يساعده اللسان، ولا يلتئم مع تكلفه الكلام.

                                                                                              [ ص: 31 ] و (قوله: " فليقصها أعبرها ") أي: ليذكر قصتها وليتتبع جزئياتها حتى لا يترك منها شيئا، مأخوذ من: قصصت الأثر: إذا تتبعته. و " أعبرها "، أي: أعتبرها وأفسرها. ومنه قوله تعالى: إن كنتم للرؤيا تعبرون [يوسف: 43] وأصله من عبرت النهر: إذا جزت من إحدى عدوتيه إلى الأخرى.

                                                                                              و " الظلة ": السحابة التي تظلل من تحتها. و " تنطف ": تقطر. والنطفة: القطرة من المائع. و " يتكففون ": يأخذون بأكفهم، ويحتمل أن يكون معناه: يأخذون من ذلك كفايتهم. وهذا أليق بقوله: فالمستكثر من ذلك والمستقل. و " السبب ": الحبل.

                                                                                              و (قوله: " بأبي أنت وأمي ") أي: مفدي من المكاره والمساوئ.

                                                                                              و (قوله: " والله لتدعني فلأعبرها ") هذه الفاء: زائدة. و " أعبرها " منصوب بلام كي، ويصح أن تكون لام الأمر فتجزم، ولا تكون لام القسم لما يلزم من فتحها، ومن دخول النون في فعلها.

                                                                                              وفيه من الفقه: جواز الحلف على الغير، وإبرار الحالف ، فإنه صلى الله عليه وسلم أجاب طلبته، وأبر قسمه، فقال له: " اعبر ". ويدل على تمكن أبي بكر من علم عبارة الرؤيا.

                                                                                              ووجه عبارة أبي بكر لهذه الرؤيا واضحة، ومناسباتها واقعة، غير أن [ ص: 32 ] النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: " أصبت بعضا، وأخطأت بعضا "، ولم يبين له ما الذي أخطأ فيه. اختلف الناس فيه، فقيل: معناه: أنه قصر في ترك بعض أجزاء الرؤيا غير مفسرة؛ وذلك أنه رد شيئين لشيء واحد، فإنه رد السمن والعسل للقرآن، ولو رد الحلاوة للقرآن والسمن للسنة، لكان أليق، وأنسب. وإلى هذا أشار الطحاوي .

                                                                                              قلت: وفي هذا بعد، ويرد عليه مؤاخذات يطول تتبعها.

                                                                                              وقال بعضهم: إن المنام يدل على خلع عثمان ؛ لأنه الثالث الذي أخذ بالسبب فانقطع به، غير أنه لم يوصل له بعود الخلافة، فإنه قتل، وإنما وصل لغيره، وهو علي رضي الله عنهما.

                                                                                              قلت: وهذا إنما يصح إذا لم يرو في الحديث: " له " من " وصل له " على ما نبه عليه القاضي فإنه قال: ليس فيها " له ". وإنما هو: " وصل " فقط. وعلى هذا يمكن أن ينسب الخطأ إلى هذا المعنى؛ لأنه تأول الوصل له وهو لغيره، لكن الرواية الصحيحة والموجود في الأصول التي وقفت عليها ثبوت " له "، وعلى هذا فإنما وصل له بالشهادة والكرامة التي أعدها الله تعالى له في الدار الآخرة، وتأولها أبو بكر رضي الله عنه على الخلافة. والله تعالى أعلم. وبعد هذا فأقول: إن تكلف إبداء ذلك الخطأ الذي سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلمه أبو بكر ، ولا من كان [ ص: 33 ] هناك من أكابر الصحابة وعلمائهم رضي الله عنهم جرأة نستغفر الله تعالى منها، وإنما لم يعين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس من الأحكام التي أمر بتبليغها، ولا أرهقت إليه حاجة، ولعله لو عين ما أخطأ فيه لأفضى ذلك إلى الكلام في الخلافة، ومن تتم له، ومن لا تتم له، فتنفر لذلك نفوس، وتتألم قلوب، وتطرأ منه مفاسد، فسد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الباب. والله تعالى أعلم بالصواب.

                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: " لا تقسم ") مع أنه قد أقسم. معناه: لا تعد للقسم. ففيه: ما يدل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبرار المقسم ليس بواجب، وإنما هو مندوب إليه إذا لم يعارضه ما هو أولى منه.




                                                                                              الخدمات العلمية