الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4218 [ 2187 ] وعن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته فقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريدة حتى وقف على مسيلمة أصحابه، قال: "لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيك ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عني". ثم انصرف عنه. فقال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك أرى الذي أريت فيك ما رأيت" فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، فكان أحدهما: العنسي صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة".

                                                                                              رواه البخاري (4373)، ومسلم (2273 و 2274) (21).

                                                                                              [ 2188 ] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا نائم أتيت خزائن الأرض فوضع في يدي أسوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني، فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما، فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة.

                                                                                              رواه البخاري (4375)، ومسلم (2274) (22).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قول ابن عباس رضي الله عنهما: " قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته "). مسيلمة هذا هو: ابن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن عثمان بن الحارث بن ذهل بن الدول بن حنيفة. قال ابن إسحاق : وكان من شأنه: أنه تنبأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر، وكان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويزعم أنه شريك معه في نبوته. وقال سعيد بن المسيب : إنه كان قد تسمى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله بن عبد المطلب - أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه قتل وهو ابن خمسين ومائة سنة. قال سعيد بن جبير : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: (بسم الله الرحمن الرحيم) قالت قريش : إنما يعني: مسيلمة . قال ابن إسحاق : وإنه تسارع إليه بنو حنيفة ، وإنه بعث برجلين من قومه بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني أشركت معك في الأمر، فلي نصف الأرض، ولك نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، قال للرسولين: " ما تقولان [ ص: 40 ] أنتما؟ " قالا: نقول ما قال صاحبنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما "، ثم كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد ف: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين [الأعراف: 128] "، فلما انتهى الكتاب إليه انكسر بعض الانكسار، وقالت بنو حنيفة : لا نرى محمدا أقر بشركة صاحبنا في الأمر.

                                                                                              قال ابن إسحاق : تنبأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيلمة ، وصاحب صنعاء: الأسود بن عزة العنسي ، وطليحة ، وسجاح التميمية جاءت إلى مسيلمة فقالت له: ما أوحي إليك؟ قال: أوحي إلي: ألم تر إلى ربك كيف خلق الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى بين صفاق وحشا. قالت: وماذا؟ فقال: ألم تر أن الله خلق [للنساء أفراجا] وخلق الرجال لهن أزواجا، فيولج فيهن قعسا إيلاجا، ثم يخرجه إذا استمنى إخراجا. فقالت: أشهد أنك نبي ! قال: هل لك أن أتزوجك، فآكل بقومي وقومك العرب؟ فتزوجته، فنادى مناديها: ألا إنا أصبنا الدين في بني حنيفة . ونادى منادي بني حنيفة : ألا إن نبينا تزوج نبيتكم. وقالت له: يا أبا ثمامة ! ضع عن قومي هاتين الطويلتين، صلاة الفجر، وصلاة العشاء الآخرة. فخرج مناديه فنادى بذلك. فقال شيخ من بني تميم : جزى الله أبا ثمامة عنا خيرا، فوالله: لقد كاد ثقلهما علينا يوتغنا عن ديننا.

                                                                                              [ ص: 41 ] قال غير ابن إسحاق : ولما استفحل أمر مسيلمة قدم المدينة في بشر كثير، ونزل على عبد الله بن أبي ، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عباس ، وفي غير حديث ابن عباس : أن مسيلمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث آخر: أن مسيلمة كان في ظهر القوم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عنه.

                                                                                              قلت: فيحتمل أن يكون هذا اختلاف أحوال في قدمة واحدة قدمها مسيلمة المدينة ، وعند بلوغ قدومه للنبي صلى الله عليه وسلم سأل عنه، ثم بعد ذلك جاء كل واحد منهما إلى الآخر، فاجتمعا بموضع غير موضعيهما. وهذا الاحتمال أقرب من احتمال أن يكون مسيلمة قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.

                                                                                              ثم إن مسيلمة رجع إلى اليمامة على حالته تلك، إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم أمر مسيلمة ، وأطبق أهل اليمامة عليه، وارتدوا عن الإسلام، وانضاف إليهم بشر كثير من أهل الردة، وقويت شوكتهم، فكاتبهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه كتبا كثيرة يعظهم، ويذكرهم، ويحذرهم، وينذرهم إلى أن بعث لهم كتابا مع حبيب بن عبد الله الأنصاري ، فقتله مسيلمة ، فعند ذلك عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتالهم والمسلمون، فأمر أبو بكر خالد بن الوليد رضي الله عنهما، وتجهز الناس، وعقد الراية لخالد ، وصاروا إلى اليمامة ، فاجتمع لمسيلمة جيش عظيم، وخرج إلى المسلمين، فالتقوا، وكانت بينهم حروب عظيمة لم يسمع بمثلها، واستشهد فيها من قراء القرآن خلق كثير، حتى خاف أبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما أن يذهب من القرآن شيء لكثرة من قتل هناك من القراء، ثم إن الله تعالى ثبت المسلمين، وقتل الله تعالى مسيلمة اللعين على يدي وحشي قاتل حمزة ، ورماه بالحربة التي قتل بها حمزة ، ثم دفف عليه رجل من الأنصار ، [ ص: 42 ] فاحتز رأسه، وهزم الله جيشه، وأهلكهم، وفتح الله اليمامة ، فدخلها خالد رضي الله عنه واستولى على جميع ما حوته من النساء، والولدان، والأموال، وأظهر الله الدين، وجعل العاقبة للمتقين، فالحمد لله الذي صدقنا وعده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده، وإنما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة ليبلغه الدعوة، وليسمع قوله بالمشافهة.

                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم: " ولن أتعدى أمر الله فيك ") كذا في جميع نسخ كتاب مسلم ، وفي البخاري: " ولن تعدو أمر الله فيك "، وكلاهما صحيح. ومعنى الأول: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يغلظ القول لمسيلمة ، وأن يصرح بتكذيبه، وأن يخبره بأنه لا يبلغ أمله فيما يريده من التشريك في الرسالة، ولا في الأرض، فلم يتعد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، إذ قد فعل كل ذلك. ويحتمل أنه يريد بالأمر: ما كتب الله [عليه من الشقوة، وما وسمه عليه من الكذب والتكذيب، والأفعال القبيحة، أي: لا أقدر أن أرد ما كتب الله] عليك من ذلك، غير أن هذا المعنى أظهر من لفظ البخاري منه من لفظ كتاب مسلم.

                                                                                              و (قوله: " ولئن أدبرت ليعقرنك الله ") أي: ليهلكنك الله بالعقر - وهو القتل - إن لم تتبعني. وكذلك كان كما ذكرناه. فكان هذا من دلائل نبوة محمد نبينا صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته.

                                                                                              [ ص: 43 ] و (قوله صلى الله عليه وسلم: " وهذا ثابث يجيبك عني ") يعني: ثابت بن قيس بن شماس ، خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم وجد على مسيلمة في نفسه، فأعرض عنه إعراض المحتقر له، المصغر لشأنه، وأحال على ثابت لعلمه بأنه يقوم عنه بجواب كل ما يسألونه عنه، إذ كان من أفضل الناس، وأكملهم عقلا، وأفصحهم لسانا، وكان مع ذلك جهوري الصوت، حسن النغمة، فكان يقوم بالحجة، ويبالغ في إيراد الخطبة.

                                                                                              و (قوله: " إني لأراك الذي أريت فيه ما أريت ") الرواية: " أراك " بضم الهمزة، بمعنى أظنك، على ما قد حصل لهذه الصيغة من غلبة عرف الاستعمال، وقد قررنا: أن أصل " أرى " من " رأى " بمعنى: علم، أو أبصر، أدخلت عليه همزة التعدية، وبنيت لما لم يسم فاعله، وعلى هذا فيصح أن تكون هنا بمعنى العلم. فيكون معناه: إني لأعلم أنك الذي أريت فيه ما أريت، وهذا أولى بحال النبي صلى الله عليه وسلم فإن رؤياه حق، وتأويله لا يجوز عليه الغلط، بخلاف غيره، والله تعالى أعلم.

                                                                                              و (قوله: " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما ") السوار: ما تجعله المرأة في ذراعها مما تتحلى به من الذهب والفضة، وفيه ثلاث لغات: كسر السين، وضمها، وبهمزة مضمومة، فيقال: أسوار ويجمع أساورة، فأما أساورة الفرس فقوادهم. وإنما أهمه شأنهما، أعني: السوارين، لأنهما من حلية النساء، ومما يحرم على الرجال.

                                                                                              و (قوله: " فأوحي إلي: أن انفخهما. فنفختهما، فطارا ") ظاهره: أن هذا [ ص: 44 ] وحي من جهة الملك على غالب عادته. ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما.

                                                                                              و (قوله: " فأولتهما: كذابين يخرجان بعدي ") أي: يظهران ويغلبان بعد موتي، وإلا فقد كانا موجودين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم متبعين، وقد دل على هذا قوله في الرواية الأخرى: " فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما ". ووجه مناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا: أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانا قد أسلما، وكانا كالساعدين للإسلام، فلما ظهر فيهما هذان الكذابان، وتبهرجا لهما بترهاتهما، وزخرفا أقوالهما، فانخدع الفريقان بتلك البهرجة، فكان البلدان للنبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة يديه؛ لأنه كان يعتضد بهما. والسواران فيهما هما: مسيلمة ، وصاحب صنعاء بما زخرفا من أقوالهما. ونفخ النبي صلى الله عليه وسلم: هو أن الله أهلكهما على أيدي أهل دينه، كما ذكرناه في شأن مسيلمة . وأما صاحب صنعاء فهو الأسود بن كعب ، ويلقب بذي حمار، وسبب هذا اللقب - على ما قاله ابن إسحاق -: أنه لقيه حمار، فعثر، فسقط لوجهه، فقال: سجد لي الحمار. فارتد عن الإسلام، وادعى النبوة، ومخرق على الجهال فاتبعوه، وغلب على صنعاء ، وأخرج منها المهاجر بن أسد المخزومي ، وكان عاملا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وانتشر أمره، وغلب على امرأة مسلمة من الأساورة، فتزوجها فدست إلى قوم من الأساورة: أني قد صنعت سربا يوصل منه إلى مرقد الأسود فدلتهم على ذلك، فدخل منه قوم، منهم فيروز الديلمي ، وقيس بن مكشوح ، فقتلوه، وجاءوا برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما قاله ابن إسحاق -.

                                                                                              [ ص: 45 ] وقال وثيمة : ومنهم من يقول: كان ذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.

                                                                                              قلت: وهذا هو الصحيح - إن شاء الله تعالى - لقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرجان بعدي" أي: بعد وفاتي، والله أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية