الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا يجب صوم رمضان إلا برؤية الهلال فإن غم عليهم وجب عليهم أن يستكملوا شعبان ثم يصوموا ; لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ، ولا تستقبلوا الشهر استقبالا } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث رواه هكذا النسائي بإسناد صحيح ، ورواه مسلم من رواية ابن عباس ولفظه { إن الله قد أمده لرؤيته فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة } ورواه الترمذي ولفظه { لا تصوموا قبل رمضان ، صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن حالت دونه غيابة فأكملوا ثلاثين يوما } قال الترمذي حديث حسن صحيح ( الغيابة ) السحابة . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له } رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم { فاقدروا ثلاثين } وفي رواية له { فإذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن أغمي عليكم فاقدروا له } وفي رواية { فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما وفي رواية } { فإن غبي عليكم فأكملوا العدة } وفي رواية { فإن أغمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين } هذه الروايات كلها في صحيح مسلم . وفي رواية البخاري { فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين }

                                      [ ص: 276 ] وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإذا غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام } رواه أبو داود والدارقطني وقال : إسناده صحيح . وعن حذيفة رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تصوموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة } رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وفي الباب أحاديث كثيرة بمعنى ما ذكرته . واختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : { فإن غم عليكم فاقدروا له } فقال أحمد بن حنبل وطائفة قليلة : معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب ، وأوجب هؤلاء صيام ليلة الغيم . وقال مطرف بن عبد الله وأبو العباس بن سريج وابن قتيبة وآخرون : معناه قدروه بحساب المنازل ، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف : معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما .

                                      قال أهل اللغة : يقال قدرت الشيء - بتخفيف الدال - أقدره وأقدره بضمها وكسرها وقدرته بتشديدها ، وأقدرته بمعنى واحد وهو من التقدير . قال الخطابي وغيره : ومنه قوله تعالى { فقدرنا فنعم القادرون } واحتج الجمهور بالروايات التي ذكرناها وكلها صحيحة صريحة : فأكملوا العدة ثلاثين واقدروا له ثلاثين ، وهي مفسرة لرواية فاقدروا له المطلقة . قال الجمهور : ومن قال بتقدير تحت السحاب فهو منابذ لصريح باقي الروايات ، وقوله مردود ، ومن قال بحساب المنازل فقوله مردود بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين { إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا ، وهكذا } الحديث قالوا : ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم ; لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار ، فالصواب ما قاله الجمهور ، وما سواه فاسد مردود بصرائح الأحاديث السابقة . وقوله صلى الله عليه وسلم : " فإن غم عليكم " معناه حال بينكم وبينه غيم ، يقال : غم وغمي وغمي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما ، ويقال : غبي بفتح الغين وكسر الباء ، وقد غامت السماء وغيمت وأغامت وتغيمت وأغمت ، وقوله صلى الله عليه وسلم [ ص: 277 ] صوموا لرؤيته " المراد رؤية بعضكم ، وهل هو عدل أم عدلان ؟ فيه الخلاف المشهور ، والله أعلم .

                                      قال أصحابنا وغيرهم : ولا يجب صوم رمضان إلا بدخوله ، ويعلم دخوله برؤية الهلال ، فإن غم وجب استكمال شعبان ثلاثين ثم يصومون ، سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة غيما قليلا أو كثيرا . ودليله ما سبق والله أعلم .

                                      ( فرع ) ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { شهرا عيد لا ينقصان ، رمضان وذو الحجة } معناه لا ينقص أجرهما والثواب المرتب وإن نقص عددهما ، وقيل : معناه لا ينقصان معا غالبا من سنة واحدة ، وقيل : لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان ; لأن فيه المناسك والعشر ، وحكاه الخطابي وهو ضعيف باطل ، والصواب الأول ولم يذكر صاحب التتمة غيره ، ومعناه أن قوله صلى الله عليه وسلم : {من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } { ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر } ونظائر ذلك ، فكل من هذه الفضائل تحصل ، سواء تم عدد رمضان أم نقص . قال صاحب التتمة : وإنما خص هذين الشهرين لتعلق العبادة بهما وهي الصوم والحج .




                                      الخدمات العلمية