الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن اشترى جارية بألف درهم [ ص: 433 ] حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول لا يجوز البيع الثاني ) وقال الشافعي رحمه الله : يجوز لأن الملك قد تم فيها بالقبض فصار البيع من البائع ومن غيره سواء وصار كما لو باع بمثل الثمن الأول أو بالزيادة أو بالعرض . [ ص: 434 ] ولنا قول عائشة رضي الله عنها : لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعدما اشترت بثمانمائة : بئسما شريت واشتريت ، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ; ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه فإذا وصل إليه المبيع ووقعت المقاصة بقي له فضل خمسمائة وذلك بلا عوض ، [ ص: 435 ] بخلاف ما إذا باع بالعرض لأن الفضل إنما يظهر عند المجانسة . .

التالي السابق


( قوله ومن اشترى جارية بألف درهم [ ص: 433 ] حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع قبل نقد الثمن ) بمثل أو أكثر جاز ، وإن باعها من البائع بأقل لا يجوز عندنا ، وكذا لو اشترى عبده أو مكاتبه ; ولو اشترى ولده أو والده أو زوجته فكذلك عنده .

وعندهما يجوز لتباين الأملاك وكان كما لو اشتراه آخر وهو يقول كل منهم بمنزلة الآخر ولذا لا تقبل شهادة أحدهما للآخر . ولو اشترى وكيل البائع بأقل من الثمن الأول جاز عنده خلافا لهما ; لأن تصرف الوكيل عنده يقع لنفسه فلذا يجوز للمسلم أن يوكل ذميا بشراء خمر وبيعها عنده ولكن ينتقل الملك إلى الموكل حكما فكان كما لو اشترى لنفسه فمات فورثه البائع . وعندهما عقد الوكيل كعقده .

ولو اشتراه وارثه يجوز في ظاهر الرواية عنهم ، وعن أبي يوسف لا يجوز ، ولو باعه المشتري من رجل أو وهبه ثم اشتراه البائع من ذلك الرجل يجوز لاختلاف الأسباب بلا شبهة ، وبه تختلف المسببات ، وبقولنا قال مالك وأحمد .

وقيد بقوله : نقد الثمن ; لأن ما بعده يجوز بالإجماع بأقل من الثمن ، وكذا لو باعه بعرض قيمته أقل من الثمن ( وقال الشافعي رحمه الله : يجوز ) كيفما كان ، كما لو باعه من غير البائع بأقل من الثمن أو منه بمثل الثمن الأول أو أكثر أو بعرض قيمته أقل من الثمن بجامع قيام الملك فيه ; لأنه هو المطلق في الأصول التي عينها ، وتقييده بالعرض دون أن يقول كما لو باعه بخلاف جنسه وقيمته أقل ; لأنه لو باعه [ ص: 434 ] بذهب قيمته أقل من الدراهم الثمن لا يجوز عندنا استحسانا خلافا لزفر ، وقياسه على العرض بجامع أنه خلاف جنسه فإن الذهب جنس آخر بالنسبة إلى الدراهم .

وجه الاستحسان أنهما جنس واحد من حيث كونهما ثمنا ومن حيث وجب ضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فيبطل البيع احتياطا وألزم أن اعتبارهما جنسا واحدا يوجب التفاضل بينهما احتياطا . والجواب أنه مقتضى الوجه ذلك ولكن في التفاضل عند بيع أحدهما بعين الآخر إجماع ( ولنا قول عائشة ) إلى آخر ما نقله المصنف عن عائشة يفيد أن المرأة هي التي باعت زيدا بعد أن اشترت منه وحصل له الربح ; لأن شريت معناه بعت قوله تعالى { وشروه بثمن بخس } أي باعوه .

وهو رواية أبي حنيفة ; فإنه روى في مسنده عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أبي سفر " أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : إن زيد بن أرقم باعني جارية بثمانمائة درهم ثم اشتراها مني بستمائة ، فقالت : أبلغيه عني أن الله أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب " .

ففي هذا أن الذي باع زيد ثم استرد وحصل الربح له ، ولكن رواية غير أبي حنيفة من أئمة الحديث عكسه .

روى الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم ، فقالت أم ولد زيد لعائشة : إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريته بستمائة نقدا ، فقالت : أبلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب ، بئس ما اشتريت وبئس ما شريت . وهذا فيه أن الذي حصل له الربح هي المرأة .

قال [ ص: 435 ] ابن عبد الهادي في التنقيح : هذا إسناد جيد وإن كان الشافعي قال : لا يثبت مثله عن عائشة . وقول الدارقطني في العالية هي مجهولة لا يحتج بها فيه نظر ، فقد خالفه غير واحد ، ولولا أن عند أم المؤمنين علما من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد . وقال غيره : هذا مما لا يدرك بالرأي . والمراد بالعالية امرأة أبي إسحاق السبيعي التي ذكر أنها دخلت مع أم الولد على عائشة .

قال ابن الجوزي : قالوا : إن العالية امرأة مجهولة لا يحتج بنقل خبرها . قلنا هي امرأة جليلة القدر ذكرها ابن سعد في الطبقات فقال : العالية بنت أنفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة . وقولها بئس ما شريت : أي بعت قوله تعالى { وشروه بثمن بخس } أي باعوه ، وإنما ذمت العقد الأول ; لأنه وسيلة وذمت الثاني ; لأنه مقصود الفساد .

وروى هذا الحديث على هذا النحو عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأة أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت : كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتعتها منه بستمائة فنقدته الستمائة وكتب لي عليه ثمانمائة فقالت عائشة : إلى قولها إلا أن تتوب ، وزاد : فقالت المرأة لعائشة : أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل ؟ فقالت { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } .

لا يقال : إن قول عائشة وردها لجهالة الأجل وهو البيع إلى العطاء ، فإن عائشة كانت ترى جواز الأجل إلى العطاء . ذكره في الأسرار وغيره . والذي عقل من معنى النهي أنه استربح ما ليس في ضمانه .

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ، وهذا ; لأن الثمن لا يدخل في ضمانه قبل القبض ، فإذا عاد إليه الملك الذي زال عنه بعينه وبقي له بعض الثمن فهو ربح حصل لا على ضمانه من جهة من باعه ، وهذا لا يوجد فيما إذا اشتراه بمثل الثمن أو أكثر فبطل إلحاق الشافعي بذلك ، بخلاف ما لو باعه المشتري من غير البائع فاشتراه البائع منه ; لأن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأعيان حكما ، وكذا لو دخل في المبيع عيب فاشتراه البائع بأقل ; لأن الملك لم يعد إليه بالصفة التي خرج فلا يتحقق ربح ما لم يضمن ، بل يجعل النقصان بمقابلة الجزء الذي احتبس عند المشتري سواء كان ذلك النقصان بقدر ذلك العيب أو دونه ، حتى لو كان النقصان نقصان سعر فهو غير معتبر في العقود ; لأنه فتور في رغبات الناس فيه وليس من فوات جزء من العين ، ولذلك إذا اشتراه بجنس آخر غير الثمن جاز ; لأن الربح لا يتحقق عينه مع اختلاف الجنس ; لأن الفضل إنما يظهر بالتقويم والبيع لا يعقب ذلك بخلافه بجنس الثمن الأول لظهوره بلا تقويم ، وقد أورد عليه تجويز كون إنكار عائشة لوقوع البيع الثاني قبل قبض المبيع إذ القبض لم يذكر في الحديث .

قلنا : لا يصح هذا ; لأنها ذمته لأجل الربا بقرينة تلاوة آية الربا ، وليس في بيع المبيع قبل القبض ربا . ولا يخفى ضعف هذا الجواب ; لأن تلاوة الآية ظاهر في كونها لاشتمالها على قبول التوبة جوابا لقول المرأة : أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل ، كان هذا مع التوبة ، فتلت آية ظاهرة في قبول التوبة وإن كان سوقها في القرآن في الربا . وأورد عليه طلب الفرق بين النهي عن بيع الولد الكائن مع أمه مفردا لم يوجب الفساد فلم أوجبه هذا النهي .

أجيب بأن النهي إذا كان لأمر يرجع إلى نفس البيع أوجبه ، وإن كان لأمر خارج لا ، والنهي فيما ذكر للتفريق لا لنفس البيع ، حتى لو فرق بينهما بغير البيع أثم فيكره في نفسه كالبيع وقت النداء ، وهنا [ ص: 436 ] هو لشبهة الربا وهو مخصوص بالبيع ولشبهة الربا حكم حقيقته .




الخدمات العلمية