الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4230 [ 2198 ] وعن أبي حميد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرصوها، فخرصناها، وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله. وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله، فهبت ريح شديدة فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ، وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - في رواية: ببحرهم - وأهدى له بردا، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها: كم بلغ ثمرها؟ فقالت: عشرة أوسق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث". فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: "هذه طابة وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه" ثم قال: "إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير". فلحقنا سعد بن عبادة فقال أبو أسيد: ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار فجعلنا آخرا، فأدرك سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرا، فقال: "أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟ ! ".

                                                                                              رواه أحمد ( 5 \ 424 )، والبخاري (1481)، ومسلم (1392) في الفضائل (11 و 12)، وأبو داود (3079).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين مر على حديقة المرأة: " اخرصوها ") دليل على جواز الخرص إذا احتيج إليه، وأنه طريق معتبر شرعا. وخروج ثمرة هذه الحديقة على مقدار ما خرصه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على صحة حدسه، وقوة إدراكه، وإصابته وجه الصواب فيما كان يحاوله، ولا يعارض هذا بحديث إبار النخل، فإن الله تعالى قد أجرى عادة ثابتة متكررة في إبار النخل لم يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما أرى هذا يغني شيئا ") يعني الإبار، وصدق، فإن الله تعالى هو الذي يمسك الثمرة ويطيبها إذا شاء، لا الإبار، ولا غيره، بخلاف الوصول إلى المقادير بالخرص، فإن الغالب فيه من الممارسين له التقريب لا التحقيق. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار ذلك على التحقيق، فوجد كما أخبر، فإن كان هذا منه عن حدس وتخمين، كان دليلا على أنه قد خص من ذلك بشيء لم يصل إليه غيره، وإن كان ذلك بالوحي، كان ذلك من شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم.

                                                                                              [ ص: 58 ] و (قوله: " ستهب عليكم ريح شديدة ") من المعجزات الغيبية، وهي من الكثرة بحيث لا تحصى، يحصل بمجموعها العلم القطعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم كثيرا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، أو من ارتضاه من الرسل فأطلعه الله عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله عليه، فهو رسول من أفضل الرسل.

                                                                                              و (قوله: " فلا يقم فيها أحد، ومن كان له بعير فليشد عقاله ") دليل على الأخذ بالحزم، والحذر في النفوس، والأموال، ومن أهمل شيئا من الأسباب المعتادة، زاعما أنه متوكل، فقد غلط، فإن التوكل لا يناقض التحرز، بل حقيقته لا تتم إلا لمن جمع بين الاجتهاد في العمل على سنة الله، وبين التفويض إلى الله تعالى، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                              وابن العلماء : هو بفتح العين المهملة وسكون اللام، والمد، وهو تأنيث الأعلم، وهو المشقوق الشفة العليا، والأفلح: هو المشقوق الشفة السفلى.

                                                                                              وصاحب أيلة ، يعني به: ملكها. وأيلة : بلد معروف بالشام ، وإليه تنسب عقبة أيلة .

                                                                                              و (قوله: " وأهدى له بغلة بيضاء ") هذه البغلة قبلها النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت عنده زمانا طويلا، ولم تكن له بغلة غيرها، وكانت تسمى: الدلدل، وفيه دليل على قبول هدية الكتابي، وقد تقدم القول فيه، وفي قوله: " هذا جبل يحبنا ونحبه "، وفي " طابة ".

                                                                                              و (قوله: " فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببحرهم، وأهدى له بردا ") البحر هنا، يراد [ ص: 59 ] به البلد، والبحار: القرى، وقد تقدم. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه بعض تلك البلاد، كما قد أقطع تميما الداري رضي الله عنه بلد الخليل صلى الله عليه وسلم قبل فتحه. ويظهر من حال ابن العلماء أنه استشعر، أو علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر، ويغلب على ما تحت يده هو من البلاد، فسأله أن يقطعه بعضها. والله أعلم. وأما إهداؤه البرد، فمكافأة، ومواصلة، واستئلاف ليدخل في دين الإسلام، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضره في ذلك الوقت إلا ذلك البرد، والله أعلم.

                                                                                              و (قوله: " إن خير دور الأنصار : دار بني النجار ، ثم دار بني عبد الأشهل ... " الحديث إلى آخره) يدل على جواز تفضيل بعض المعينين على بعض من غير الأنبياء، وإن سمع ذلك المفضول، وقد تقدم القول في تفضيل الأنبياء.

                                                                                              و " الدور ": جمع دار، وهو في الأصل: المحلة والمنزل، وعبر به هنا عن القبائل، وهذا نحو قوله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، أي: في القبائل والمحلات. وفيه ما يدل على جواز المدح إذا قصد به الإخبار بالحق، ودعت إلى ذلك حاجة، وأمنت الفتنة على الممدوح. وفيه دليل على جواز المنافسة في الخير، والدين، والثواب، كما قال سعد : " يا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرا ". طلب أن يلحقهم بالطبقة الأولى. فأجابه بأن قال: " أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟ " وإنما يعني بذلك: أن تفضيلهم إنما هو [ ص: 60 ] بحسب سبقهم إلى الإسلام، وظهور آثارهم فيه، وتلك الأمور وقعت في الوجود مرتبة على حسب ما شاء الله تعالى في الأزل، وإذا كان كذلك لم يتقدم متأخر منهم على منزلته، كما لا يتأخر متقدم منهم عن مرتبته، إذ تلك مراتب معلومة على قسم مقسومة، وقد سبق لسعادتهم القضاء: يختص برحمته من يشاء [آل عمران: 74].

                                                                                              و (قوله: " ثم دار بني عبد الحارث ") كذا وقع للعذري ، والفارسي ، وهو وهم. والصواب: بني الحارث ، بإسقاط عبد، والله أعلم.

                                                                                              و (قوله: " وجعلنا آخرا ") وقع في بعض النسخ آخر بغير تنوين ولا ألف. جعله غير منصرف، وليس بصحيح الرواية، ولا المعنى، إذ لا مانع من صرفه؛ لأن آخرا هنا: هو الذي يقابل: أولا، وكلاهما مصروف، وهو منصوب على أنه المفعول الثاني لجعل؛ لأنه بمعنى: صير. ويحتمل أن يتأول في معنى جعل: معنى أنزل، فيكون ظرفا، أي: أنزلتنا منزلا متأخرا. وعلى الوجهين فلا بد من صرفه، وكذا وجدناه من تقييد المحققين.

                                                                                              و (قوله: " أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار ") ويروى: " من الأخيار "، وكلاهما صحيح.




                                                                                              الخدمات العلمية