الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1131 ] هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها ; وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى ; وبمشهد الذي يرجع القهقرى مرتدا عن دين الله ; وحيرته في التيه بلا اتجاه ; وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى . . هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية . عن سلطان الله المطلق ، في الأمر والخلق ; وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور - حتى للمنكرين المطموسين - يوم ينفخ في الصور ويبعث من في القبور ; ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده ، وأن إليه المصير :

                                                                                                                                                                                                                                      قل: أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا، ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، كالذي استهوته الشياطين في الأرض، حيران، له أصحاب يدعونه إلى الهدى. ائتنا. قل: إن هدى الله هو الهدى، وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه ..

                                                                                                                                                                                                                                      قل . . الإيقاع القوي المتكرر في السورة ; الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو منذر ومبلغ ; والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته ; وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو مأمور به من ربه .

                                                                                                                                                                                                                                      قل: أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا؟ . .

                                                                                                                                                                                                                                      قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه ، وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا . سواء كان ما يدعونه وثنا أو صنما ، حجرا أو شجرا ، روحا أم ملكا ، شيطانا أم إنسانا . . فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئا ولا يضرون . فهم أعجز من النفع والضر . وكل حركة إنما تجري بقدر من الله . فما لم يأذن به الله لا يكون ، ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور . .

                                                                                                                                                                                                                                      قل لهم مستنكرا دعوة غير الله ، وعبادة غير الله ، والاستعانة بغير الله ، والخضوع لغير الله . وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه . . وسواء كان ذلك ردا على ما كان يقترحه المشركون على النبي - صلى الله عليه وسلم - من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه ! أو كان ذلك استنكارا مبتدأ لما عليه المشركون ، وإعلانا للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . . فإن المؤدى في النهاية واحد ; وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور ; بعيدا عن الموروثات الراسبة ، وبعيدا كذلك عن العرف السائد في البيئة !

                                                                                                                                                                                                                                      ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده ، واتخاذه وحده إلها ، والدينونة له وحده بلا شريك :

                                                                                                                                                                                                                                      قل: أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا؟ . .

                                                                                                                                                                                                                                      فهو ارتداد على الأعقاب ; ورجوع إلى الوراء ; بعد التقدم والارتقاء . .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير :

                                                                                                                                                                                                                                      كالذي استهوته الشياطين في الأرض.. حيران.. له أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا . .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد ، ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد ، والآلهة المتعددة من العبيد ! ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال ، فيذهب في التيه . . إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس : كالذي استهوته الشياطين في الأرض - ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله - ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه ، فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد - ولو في طريق الضلال ! - [ ص: 1132 ] ولكن هناك ، من الجانب الآخر ، أصحاب له مهتدون ، يدعونه إلى الهدى ، وينادونه "ائتنا " ، وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء "حيران " لا يدري أين يتجه ، ولا أي الفريقين يجيب ! إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك ، حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير !

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرأت هذا النص . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن مجرد تصور . . حتى رأيت حالات حقيقية ، يتمثل فيها هذا الموقف ، ويفيض منها هذا العذاب . . حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه - أيا كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق - ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة ، تحت قهر الخوف والطمع . . ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير . . وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة ، وماذا يعني هذا التعبير !

                                                                                                                                                                                                                                      وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي ، يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس . . يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم :

                                                                                                                                                                                                                                      قل: إن هدى الله هو الهدى، وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه . .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب ، فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية ، والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار ، تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم . .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم :

                                                                                                                                                                                                                                      قل: إن هدى الله هو الهدى . .

                                                                                                                                                                                                                                      هو وحده الهدى - كما يفيد التركيب البياني للجملة - وإنه لكذلك عن يقين . .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن البشرية لتخبط في التيه ، كلما تركت هذا الهدى ، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئا من تصوراتها هي ومقولاتها ، وأنظمتها وأوضاعها ، وشرائعها وقوانينها ، وقيمها وموازينها ، بغير "علم " ولا "هدى " ولا "كتاب منير " . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن "الإنسان " موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه ، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض ، وترقية هذه الحياة . . ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون ، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب ، ومنها غيب عقله هو وروحه ، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف ، والتي تدفعها للعمل هكذا ، وبهذا الانتظام ، وفي هذا الاتجاه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يحتاج هذا "الإنسان " إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق ، وموازين وقيم ، وأنظمة وأوضاع ، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة . .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلما فاء هذا "الإنسان " إلى هدى الله اهتدى . لأن هدى الله هو الهدى . وكلما بعد كلية عنه ، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئا من عنده ضل . لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال . . إذ ليس هنالك نوع ثالث فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال - وما تزال كلها تذوق - ما هو "حتمي " في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله . . فهذه هي "الحتمية التاريخية " الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله ، ومن خبر الله ، [ ص: 1133 ] لا تلك الحتميات المدعاة ! والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله ، لا يحتاج أن ينقب ، فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي ، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده ، وعبادته وحده ، ومخافته وتقواه :

                                                                                                                                                                                                                                      وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه . .

                                                                                                                                                                                                                                      قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى وأننا - من ثم - أمرنا أن نسلم لرب العالمين . فهو وحده الذي يستسلم له العالمون . فالعوالم كلها مستسلمة له ، فماذا الذي يجعل الإنسان وحده - من بين العالمين - يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين ؟

                                                                                                                                                                                                                                      إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه . . إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله ، وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة ، للنواميس التي وضعها الله لها ; وهي لا تملك الخروج عليها ، والإنسان - من ناحية تركيبه العضوي - يستسلم كذلك لهذه النواميس كرها ، ولا يملك الخروج عليها . . فلا يبقى إلا أن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه ، وهو جانب الاختيار . . اختيار الهدى أو الضلال . . ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي ، لاستقام أمره ، وتناسق تكوينه وسلوكه ، وجسمه وروحه ، ودنياه وآخرته . .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي إعلان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه ، أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا ، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد إعلان الاستسلام لرب العالمين تجيء التكاليف التعبدية والشعورية :

                                                                                                                                                                                                                                      وأن أقيموا الصلاة واتقوه .

                                                                                                                                                                                                                                      فالأصل هو الاستسلام لربوبية رب العالمين ، وسلطانه وتربيته وتقويمه . ثم تجيء العبادات الشعائرية ; وتجيء الرياضيات النفسية . . لتقوم على قاعدة الاستسلام . . فإنها لا تقوم إلا إذا رسخت هذه القاعدة ليقوم عليها البناء .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الإيقاع الأخير في الفقرة يحشد السياق المؤثرات من الحقائق الأساسية في العقيدة : حقيقة الحشر . . وحقيقة الخلق . وحقيقة السلطان . وحقيقة العلم بالغيب والشهادة . وحقيقة الحكمة والخبرة . . من خصائص الألوهية ، التي هي الموضوع الرئيسي في هذه السورة :

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الذي إليه تحشرون وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق. ويوم يقول: كن فيكون قوله الحق، وله الملك يوم ينفخ في الصور، عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الخبير ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الذي إليه تحشرون . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الاستسلام لرب العالمين ضرورة وواجب . . فهو الذي إليه تحشر الخلائق . . فأولى لهم أن يقدموا بين يدي الحشر - الحتمي - ما ينجيهم ; وأولى لهم أن يستسلموا اليوم له استسلام العالمين ; قبل أن يقفوا أمامه [ ص: 1134 ] مسؤولين . . وكذلك يصبح تصور هذه الحقيقة - حقيقة الحشر - موحيا بالاستسلام في المبدأ ، ما دام أنه لا مفر من الاستسلام في المصير !

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه حقيقة أخرى تحشد كمؤثر آخر . . فالله الذي يؤمرون بالاستسلام له هو الذي خلق السماوات والأرض - والذي يخلق يملك ويحكم ويقضي ويتصرف - ولقد خلق السماوات والأرض "بالحق " . فالحق قوام هذا الخلق . . وفضلا عما يقرره هذا النص من نفي الأوهام التي عرفتها الفلسفة عن هذا الكون - وبخاصة الأفلاطونية والمثالية - من أن هذا العالم المحسوس وهم لا وجود له على الحقيقة ! فضلا على تصحيح مثل هذه التصورات ، فإن النص يوحي بأن الحق أصيل في بنية هذا الكون ، وفي مآلاته كذلك . فالحق الذي يلوذ به الناس يستند إلى الحق الكامن في فطرة الوجود وطبيعته ، فيؤلف قوة هائلة ، لا يقف لها الباطل ، الذي لا جذور له في بنية الكون ، وإنما هو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . وكالزبد يذهب جفاء ، إذ لا أصالة له في بناء الكون . . كالحق . . . وهذه حقيقة ضخمة ، ومؤثر كذلك عميق . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن المؤمن الذي يشعر أن الحق الذي معه - هو شخصيا وفي حدود ذاته - إنما يتصل بالحق الكبير في كيان هذا الوجود . (وفي الآية الأخرى : ذلك بأن الله هو الحق ) فيتصل الحق الكبير الذي في الوجود بالحق المطلق في الله سبحانه . . إن المؤمن الذي يشعر بهذه الحقيقة على هذا النحو الهائل ، لا يرى في الباطل - مهما تضخم وانتفخ وطغى وتجبر وقدر على الأذى المقدر - إلا فقاعة طارئة على هذا الوجود ; لا جذور لها ولا مدد ; تنفثئ من قريب ، وتذهب كأن لم تكن في هذا الوجود .

                                                                                                                                                                                                                                      كما أن غير المؤمن يرتجف حسه أمام تصور هذه الحقيقة . وقد يستسلم ويثوب !

                                                                                                                                                                                                                                      ويوم يقول: كن فيكون . .

                                                                                                                                                                                                                                      فهو السلطان القادر ، وهي المشيئة الطليقة ، في الخلق والإبداع والتغيير والتبديل . . وعرض هذه الحقيقة - فضلا على أنه من عمليات البناء للعقيدة في قلوب المؤمنين - هو كذلك مؤثر موح في نفوس الذين يدعون إلى الاستسلام لله رب العالمين الخالق بالحق . . الذي يقول : كن فيكون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله الحق . .

                                                                                                                                                                                                                                      سواء في القول الذي يكون به الخلق : "كن فيكون " . أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده . أو في القول الذي يشرع به للناس حين يستسلمون . أو في القول الذي يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل . وعن الخلق والنشأة والحشر والجزاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله الحق في هذا كله . . فأولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه . ومن يتبعون قول غيره كذلك وتفسيره للوجود وتشريعه للحياة . في أي اتجاه .

                                                                                                                                                                                                                                      وله الملك يوم ينفخ في الصور . .

                                                                                                                                                                                                                                      ففي هذا اليوم يوم الحشر . . يوم ينفخ في الصور (هو القرن المجوف كالبوق ) وهو اليوم الذي يكون فيه البعث والنشر ; بكيفية غيبية لا يعلمها البشر ، فهي من غيب الله الذي احتفظ به. والصور كذلك غيب من ناحية ماهيته وحقيقته ، ومن ناحية كيفية استجابة الموتى له ، والروايات المأثورة تقول : هو بوق من نور ينفخ فيه ملك ، فيسمع من في القبور ، حيث يهبون للنشور - وهذه هي النفخة الثانية - أما الأولى فيصعق لها [ ص: 1135 ] من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله كما جاء في آية الزمر : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض - إلا من شاء الله - ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . . وهذه الأوصاف للصور ولآثار النفخة فيه تعطينا - عن يقين - أنه على غير ما يمكن أن يكون البشر قد عهدوه في هذه الأرض أو تصوروه . . وهو من ثم غيب من غيب الله . . نعلمه بقدر ما أعطانا الله من وصفه وأثره ، ولا نتجاوز هذا القدر الذي لا أمان في تجاوزه ، ولا يقين . إنما هي الظنون !

                                                                                                                                                                                                                                      في هذا اليوم الذي ينفخ فيه في الصور يبرز - حتى للمنكرين - ويظهر - حتى للمطموسين - أن الملك لله وحده ، وأنه لا سلطان إلا سلطانه ، ولا إرادة إلا إرادته . . فأولى لمن يأبون الاستسلام له في الدنيا طائعين أن يستسلموا قبل أن يستسلموا لسلطانه المطلق يوم ينفخ في الصور .

                                                                                                                                                                                                                                      عالم الغيب والشهادة . .

                                                                                                                                                                                                                                      الذي يعلم ذلك الغيب المحجوب ، كما يعلم هذا الكون المشهود . والذي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد ، ولا يند عنه شأن من شؤونهم . . فأولى لهم أن يسلموا له ويعبدوه ويتقوه . وهكذا تذكر هذه الحقيقة لذاتها ، وتتخذ مؤثرا موحيا في مواجهة المكذبين والمعارضين .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الحكيم الخبير . .

                                                                                                                                                                                                                                      يصرف أمور الكون الذي خلقه ، وأمور العباد الذين يملكهم في الدنيا والآخرة بالحكمة والخبرة . . فأولى أن يستسلموا لتوجيهه وشرعه ، ويسعدوا بآثار حكمته وخبرته . ويفيئوا إلى هداه وحده . ويخرجوا من التيه ، ومن الحيرة ، إلى ظلال الحكمة والخبرة ، وإلى كنف الهدى والبصيرة . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تتخذ هذه الحقيقة مؤثرا موحيا للعقول والقلوب . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية