الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

[ تجويز الحيل يناقض سد الذريعة ]

وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة ; فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن ، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة ، فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه ؟ فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين الله .

ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله ، وأسقط فرائضه بالحيل ، كقوله : { لعن الله المحلل والمحلل له } { لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها } .

{ لعن الله الراشي والمرتشي } { لعن الله آكل الربا وموكله [ ص: 127 ] وكاتبه وشاهده } .

ومعلوم أن الكاتب والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهر ، ولعن في الخمر عشرة : عاصرها ومعتصرها ، ومعلوم أنه إنما عصر عنبا ، { ولعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة } .

وقرن بينهما وبين آكل الربا وموكله ، والمحلل والمحلل له ، في حديث ابن مسعود ، وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الأصناف وهو التدليس والتلبيس ; فإن هذه تظهر من الخلقة ما ليس فيها ، والمحلل يظهر من الرغبة ما ليس عنده ، وآكل الربا يستحله بالتدليس والمخادعة فيظهر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة ، فهذا يستحل الربا بالبيع ، وذاك يستحل الزنا باسم النكاح ، فهذا يفسد الأموال ، وذاك يفسد الأنساب ، وابن مسعود هو راوي هذا الحديث وهو راوي حديث : { ما ظهر الزنا والربا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم العقاب } .

" والله تعالى مسخ الذين استحلوا محارمه بالحيل قردة وخنازير جزاء من جنس عملهم ; فإنهم لما مسخوا شرعه وغيروه عن وجهه مسخ وجوههم وغيرها عن خلقتها ، والله تعالى ذم أهل الخداع والمكر ، ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، وأخبر أن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ، وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم وسرائرهم لعلانيتهم وأقوالهم لأفعالهم .

وهذا شأن أرباب الحيل المحرمة ، وهذه الأوصاف منطبقة عليهم ; فإن المخادعة هي الاحتيال والمراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه ، ولهذا يقال : " طريق خيدع " إذا كان مخالفا للقصد لا يفطن له ، ويقال للسراب : " الخيدع " لأنه يخدع من يراه ويغره وظاهره خلاف باطنه ، ويقال للضب : " خادع " وفي المثل : " أخدع من ضب " لمراوغته .

وقال : " سوق خادعة " أي متلونة ، وأصله الاختفاء والستر ، ومنه " المخدع " في البيت ; فوازن بين قول القائل : آمنا بالله وباليوم الآخر وأشهد أن محمدا رسول الله ; إنشاء للإيمان وإخبارا به ، وهو غير مبطن لحقيقة هذه الكلمة ولا قاصد له ولا مطمئن به ، وإنما قاله ، متوسلا به إلى أمنه وحقن دمه أو نيل غرض دنيوي ، وبين قول المرابي : بعتك هذه السلعة بمائة .

وليس لواحد منهما غرض فيها بوجه من الوجوه ، وليس مبطنا لحقيقة هذه اللفظة ، ولا قاصدا له ولا مطمئنا به ، وإنما تكلم بها متوسلا إلى الربا ، وكذلك قول المحلل : تزوجت هذه المرأة ، أو قبلت هذا النكاح ، وهو غير مبطن لحقيقة النكاح ، ولا قاصد له ولا مريد أن تكون زوجته بوجه ، ولا هي مريدة لذلك ولا الولي ، هل تجد بينهما فرقا في الحقيقة أو العرف ؟ فكيف يسمى أحدهما مخادعا دون الآخر ، مع أن قوله بعت واشتريت واقترضت وأنكحت وتزوجت غير قاصد به انتقال الملك الذي وضعت [ ص: 128 ] له هذه الصيغة ولا ينوي النكاح الذي جعلت له هذه الكلمة بل قصده ما ينافي مقصود العقد أو أمر آخر خارج عن أحكام العقد وهو عود المرأة إلى زوجها المطلق .

وعود السلعة إلى البائع بأكثر من ذلك الثمن بمباشرته لهذه الكلمات التي جعلت لها حقائق ومقاصد مظهرا لإرادة حقائقها ومقاصدها ومبطنا لخلافه ; فالأول نفاق في أصل الدين ، وهذا نفاق في فروعه ، يوضح ذلك ما ثبت عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا ، أيحلها له رجل ؟ فقال : من يخادع الله يخدعه .

وصح عن أنس وعن ابن عباس أنهما سئلا عن العينة ، فقالا : إن الله لا يخدع ، هذا مما حرم الله ورسوله فسميا ذلك خداعا ، كما سمى عثمان وابن عمر نكاح المحلل نكاح دلسة ، وقال أيوب السختياني في أهل الحيل : يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان ، فلو أتوا الأمر عيانا كان أهون علي ، وقال شريك بن عبد الله القاضي في كتاب الحيل : هو كتاب المخادعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية