الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا يجوز البيع إلى قدوم الحاج ) ، وكذلك إلى الحصاد والدياس والقطاف والجزاز ; لأنها تتقدم وتتأخر ، ولو كفل إلى هذه الأوقات جاز ; لأن الجهالة اليسيرة متحملة في الكفالة وهذه الجهالة يسيرة مستدركة لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها [ ص: 454 ] ولأنه معلوم الأصل ; ألا يرى أنها تحتمل الجهالة في أصل الدين بأن تكفل بما ذاب على فلان ففي الوصف أولى ، بخلاف البيع فإنه لا يحتملها في أصل الثمن ، فكذا في وصفه ، بخلاف ما إذا باع مطلقا ثم أجل الثمن إلى هذه الأوقات حيث جاز ; لأن هذا تأجيل في الدين وهذه الجهالة فيه متحملة بمنزلة الكفالة ، ولا كذلك اشتراطه في أصل العقد ; لأنه يبطل بالشرط الفاسد .

التالي السابق


( ولا يجوز البيع إلى قدوم الحاج والحصاد ) بفتح الحاء وكسرها ( و ) مثله ( القطاف ) وهو للعنب ( والدياس ) وهو دوس الحب بالقدم لينقشر ، وأصله الدواس بالواو ; لأنه من الدوس قلبت ياء للكسر قبلها ( والجزاز ) أي جز صوف الغنم ( لأنها تتقدم وتتأخر ) وذكر شمس الأئمة أن المراد به جزاز النخل ( ولو كفل إلى هذه الأوقات جاز ; لأن الجهالة اليسيرة متحملة في الكفالة وهذه الجهالة اليسيرة مستدركة ) أي قريب تداركها وإزالة جهالتها وتحليل الدليل هكذا هذه جهالة يسيرة .

وكل جهالة يسيرة متحملة في الكفالة ; لأنها عقد تبرع مبني على المسامحة فهذه متحملة فيها . وعلى هذا فالسؤال المورد من قبل شمس الأئمة وهو كون الجهالة اليسيرة متحملة في موضع لا يدل على أن يكون التأجيل إلى هذه الأوقات المجهولة متحملا ; ألا ترى أن الصداق يتحمل الجهالة حيث يحتمل جهالة وصفه ثم لا يصح في اشتراط هذه الآجال سؤال أجنبي عن هذا المحل . ثم أجاب أن الأصح صحة هذه الآجال في الصداق خلافا لقول البعض : إنه لا يصح تأجيل الصداق إليها .

وإنما يرد هذا إذا قيل الجهالة اليسيرة متحملة في الصداق كجهالة الوصف فيورد عليه النقض بعدم تحمله جهالة هذه الآجال ويجاب بما ذكر . وقوله ( لاختلاف الصحابة ) [ ص: 454 ] أخرجه مخرج الاستدلال على أنها جهالة يسيرة ، فإن من الصحابة من أجازه كعائشة رضي الله عنها أجازت البيع إلى العطاء . وابن عباس منعه

وبه أخذنا . ولو كانت جهالة قوية لم يختلفوا في عدم الصحة معها ، وقد قالوا : إن العطاء كان لا يتقدم ولا يتأخر فجاز كونه أجلا إذ ذاك لصدق الخلفاء الراشدين في ميعادهم في صرفه ، وأما الآن فيتأخر عن مواعيدهم كثيرا فلا يصح التأجيل إليه الآن . فإن صح هذا فكيف يتصور من ابن عباس خلافه . والظاهر أنه كان يتقدم ويتأخر قليلا بنحو يوم أو يومين فأهدرته عائشة واعتبره ابن عباس . ثم قيل : اليسيرة ما يكون الموجب للجهالة التردد في التقدم والتأخر ، والفاحشة هي ما يكون التردد في نفس الوجوب كهبوب الريح .

وقوله : ( ولأنه معلوم الأصل ) أي ; ولأن الدين معلوم فأعاد الضمير عليه ; لأنه للكفالة إذ يستلزم دينا : يعني الأصل وهو الدين معلوم والجهالة في وصفه وهو كونه مؤجلا إلى كذا الذي قد يتقدم ويتأخر . وقوله ( ألا يرى إلى آخره ) ابتداء لا تعليل لقوله : لأنه معلوم الأصل ، وحاصله أنه أثبت كون الجهالة يسيرة باختلاف الصحابة في مثلها .

وبأن الدين المكفول به معلوم الأصل فلم تبق جهالة إلا في الوصف ، وجهالة الوصف يسيرة ثم ارتفع إلى أولوية صحة هذه الآجال في الكفالة بأن بعض الكفالة تحتمل جهالة الأصل كالكفالة بما ذاب لك على فلان والذوب غير معلوم الوجود فلأن يتحمل جهالة الوصف فيه أولى ( بخلاف البيع فإنه لا يحتملها في أصل الثمن فكذا في وصفه ) فاتجه عليه أن يقال : لا يلزم من عدم تحمل أصل الجهالة عدم تحمل وصفه ، وهو أخف ; لأن الأصل أقوى ، أجيب بأن الاشتراك في العلة يوجبه في الحكم ، وعلة عدم تحملها في الأصل الإفضاء إلى المنازعة وهو موجود في جهالة الوصف ، ثم أفاد أن ما ذكره عدم تحمل البيع جهالة هذه الآجال هو إذا ذكرت في أصل العقد .

أما إذا عقده بلا أجل وهو قوله ( بخلاف ما إذا باع مطلقا ) أي عن ذكر الأجل حتى انعقد صحيحا ( ثم أجل الثمن إلى هذه الأوقات ) فإنه يجوز . فالتأجيل بعد الصحة كالكفالة تتحمل الجهالة اليسيرة ; لأنها حينئذ تأجيل دين من الديون ، بخلافه في صلب العقد فإنه يبطل بالشرط الفاسد ، وقبول هذه الآجال شرط فاسد .




الخدمات العلمية