الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة الثانية

[ في تميز الصفات ]

أجمع العلماء على اجتناب العرجاء البين عرجها في الضحايا ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء التي لا تنقى ، مصيرا لحديث البراء بن عازب : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ماذا يتقى من الضحايا ؟ فأشار بيده ، وقال : أربع . وكان البراء يشير بيده ويقول : يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم : العرجاء البين عرجها ، والعوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء التي لا تنقي " .

وكذلك أجمعوا على أن ما كان من هذه الأربع خفيفا فلا تأثير له في منع الإجزاء . واختلفوا في موضعين :

أحدهما : فيما كان من العيوب أشد من هذه المنصوص عليها مثل العمى وكسر الساق .

والثاني : فيما كان مساويا لها في إفادة النقص وشينها ( أعني : ما كان من العيوب في الأذن والعين والذنب والضرس وغير ذلك من الأعضاء ولم يكن يسيرا ) .

فأما الموضع الأول : فإن الجمهور على أن ما كان أشد من هذه العيوب المنصوص عليها فهي أحرى أن تمنع الإجزاء . وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا تمنع الإجزاء ، ولا يتجنب بالجملة أكثر من هذه العيوب التي وقع النص عليها .

وسبب اختلافهم : هل هذا اللفظ الوارد هو خاص أريد به الخصوص ، أو خاص أريد به العموم ؟ فمن قال : أريد به الخصوص ولذلك أخبر بالعدد ، قال : لا يمنع الإجزاء إلا هذه الأربعة فقط . ومن قال : هو خاص أريد به العموم ; وذلك من النوع الذي يقع فيه التنبيه بالأدنى على الأعلى ، قال : ما هو أشد من المنصوص عليها فهو أحرى أن لا يجزي .

وأما الموضع الثاني : ( أعني : ما كان من العيوب في سائر الأعضاء مفيدا للنقص على نحو إفادة هذه العيوب المنصوص عليها له ) فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها تمنع الإجزاء كمنع المنصوص عليها ، وهو المعروف من مذهب مالك في الكتب المشهورة .

والقول الثاني : أنها لا تمنع الإجزاء وإن كان يستحب اجتنابها ، وبه قال ابن القصار ، وابن الجلاب وجماعة من البغداديين من أصحاب مالك .

[ ص: 355 ] والقول الثالث : أنها لا تمنع الإجزاء ولا يستحب تجنبها ، وهو قول أهل الظاهر .

وسبب اختلافهم شيئان :

أحدهما : اختلافهم في مفهوم الحديث المتقدم .

والثاني : تعارض الآثار في هذا الباب .

أما الحديث المتقدم : فمن رآه من باب الخاص أريد به الخاص قال : لا يمنع ما سوى الأربع مما هو مساو لها أو أكثر منها . وأما من رآه من باب الخاص أريد به العام - وهم الفقهاء - فمن كان عنده أنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فقط ; لا من باب التنبيه بالمساوي على المساوي ، قال : يلحق بهذه الأربع ما كان أشد منها ، ولا يلحق بها ما كان مساويا لها في منع الإجزاء إلا على وجه الاستحباب . ومن كان عنده أنه من باب التنبيه على الأمرين جميعا ( أعني : على ما هو أشد من المنطوق به ، أو مساويا له ) قال : تمنع العيوب الشبيهة بالمنصوص عليها الإجزاء ، كما يمنعه العيوب التي هي أكبر منها .

فهذا هو أحد أسباب الخلاف في هذه المسألة ، وهو من قبل تردد اللفظ بين أن يفهم منه المعنى الخاص ، أو المعنى العام ، ثم إن من فهم منه العام ; فأي عام هو ؟ هل الذي هو أكثر من ذلك ؟ أو الذي هو أكثر والمساوي معا على المشهور من مذهب مالك ؟

وأما السبب الثاني : فإنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان :

فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال : " يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك " .

وذكر علي بن أبي طالب قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ، ولا يضحى بشرقاء ولا خرقاء ولا مدابرة ولا بتراء " والشرقاء : المشقوقة الأذن . والخرقاء : المثقوبة الأذن ، والمدابرة : التي قطع من جنبتي أذنها من خلف .

فمن رجح حديث أبي بردة قال : لا يتقى إلا العيوب الأربع ، أو ما هو أشد منها ، ومن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث أبي بردة على اليسير الذي هو غير بين ، وحديث علي على الكثير الذي هو بين ألحق بحكم المنصوص عليها ما هو مساو لها ، ولذلك جرى أصحاب هذا المذهب إلى التحديد فيما يمنع الإجزاء مما يذهب من هذه الأعضاء ، فاعتبر بعضهم ذهاب الثلث من الأذن والذنب ، وبعضهم اعتبر الأكثر ، وكذلك الأمر في ذهاب الأسنان ، وأطباء الثدي ، وأما القرن فإن مالكا قال : ليس ذهاب جزء منه عيبا إلا أن يكون يدمي فإنه عنده من باب المرض ، ولا خلاف في أن المرض البين يمنع الإجزاء . وخرج أبو داود : " أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أعضب الأذن والقرن " .

واختلفوا في الصكاء ( وهي التي خلقت بلا أذنين ) ، فذهب مالك والشافعي إلى أنها لا تجوز . وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقة جاز كالأجم . ولم يختلف الجمهور أن قطع الأذن كله أو أكثره عيب ، وكل هذا الاختلاف راجع إلى ما قدمناه .

واختلفوا في الأبتر : فقوم أجازوه لحديث جابر الجعفي عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري أنه قال : " اشتريت كبشا لأضحي به ، فأكل الذئب ذنبه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ضح به " . وجابر عند [ ص: 356 ] أكثر المحدثين لا يحتج به وقوم أيضا منعوه لحديث علي المتقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية