الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
رجل تزوج امرأة فجاء رجل مسلم ثقة أو امرأة فأخبر أنهما ارتضعا من امرأة واحدة فأحب إلي التنزه عنها فيطلقها ويعطيها نصف الصداق إن لم يكن دخل بها والكلام في هذه المسألة في فصلين : أحدهما في الحكم ، والآخر في التنزه أما في الحكم فالحرمة لا تثبت بشهادة امرأة واحدة على الرضاع عندنا ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان وعند الشافعي يثبت بشهادة أربع نسوة كما هو مذهبه فيما لا يطلع عليه الرجال وزعم أن الرضاع لا يحل مطالعته للأجانب من الرجال ولكن نقول الإرضاع يكون بالثدي وذلك مما يحل مطالعته لذي الرحم المحرم ثم قد يكون بالإيجار وذلك مما يطلع عليه الأجانب ، ومالك كان يقول : يكتفى بشهادة الواحد لإثبات الحرمة بالرضاع وذلك مروي عن عثمان رضي الله عنه واستدل فيه بحديث ابن أبي مليكة بن عقبة { أن عقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنهما تزوج بنت إهاب فجاءت امرأة سوداء فأخبرت أنها أرضعتهما جميعا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له صلى الله عليه وسلم كيف وقد قيل هذا القدر } ذكره محمد رحمه الله تعالى وأهل الحديث يروون { ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما } فهو حجة مالك رحمه الله تعالى .

( وحجتنا ) في ذلك حديث عكرمة بن خالد قال عمر رضي الله عنه : لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين ولأن هذه شهادة تقوم لإبطال الملك ولا تتم الحجة فيه إلا بشاهدين كالعتق والطلاق فأما الحديث ففيه إشارة إلى التنزه بقوله كيف وقد قيل ولو ثبتت الحرمة بخبرها لما أشار إلى التنزه بهذا اللفظ والزيادة التي يرويها أهل الحديث لم تثبت عندنا والدليل على ضعفه ما روي { عن عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى أنه قال : تزوجت بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت من الغد تشهد على الرضاع } ومثل هذه الشهادة تكون عن ضغن فلا تتم الحجة بها فأما بيان وجه التنزه أن المخبر إذا كان ثقة فالذي يقع في قلوب السامعين أنه صادق فيه فصحبتها تريبه ومفارقتها لا تريبه ولو أمسكها ربما يطعن فيه أحد ويتهمه وقال صلى الله عليه وسلم { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف [ ص: 170 ] التهم } وقال صلى الله عليه وسلم { : إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره فليس كل سامع نكرا تطيق أن توسعه عذرا } ولأن يدع وطئا حلالا خير له من أن يقدم على وطء حرام ولكن ينبغي له أن يطلقها لأنها منكوحته في الحكم فإذا لم يطلقها لا تقدر على التزوج بغيره فتبقى معلقة ثم يعطيها نصف الصداق بعد الطلاق .

وإن لم يكن دخل بها لأنها استوجبت في الحكم ذلك عليه فلا ينبغي له أن يمنعها بنظره لنفسه والمستحب لها أن لا تأخذ شيئا إن كان لم يدخل بها لجواز أن يكون المخبر صادقا والنكاح لم يكن منعقدا بينهما وإن كان دخل بها فلا بأس بأن تأخذ مقدار مهر مثلها بما استحل من فرجها وينبغي أن لا تأخذ الزيادة على ذلك إلى تمام المسمى ولكن تبريه عن ذلك لأنه حق مستحق لها في الحكم فلا يسقط إلا بإسقاطها ولا يبعد أن يندب كل واحد منهما إلى ما قلنا كما أن الله تعالى أثبت نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ثم ندب كل واحد من الزوجين إلى العفو وكذلك الرجل يشتري الجارية فيخبره عدل أنها حرة الأبوين أو أنها أخته من الرضاع فإن تنزه عن وطئها فهو أفضل وإن لم يفعل وسعه ذلك وفرق بين هذين الفصلين وبين ما تقدم من الطعام والشراب فأثبت الحرمة هناك بخبر الواحد العدل ولم يثبت هنا لأن حل الطعام والشراب يثبت بالإذن بدون الملك حتى لو قال لغيره كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو اشربه وسعه أن يفعل ذلك فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وحل الوطء لا يثبت بدون الملك حتى لو قال طأ جاريتي هذه فقد أذنت لك فيه أو قالت له ذلك حرة في نفسها لم يحل له الوطء فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وهو خبر الواحد وتقرير هذا الفرق من وجهين أحدهما أن الحل والحرمة فيما سوى البضع مقصود بنفسه لما كان يثبت بدون ملك الحل وتثبت الحرمة مع قيام الملك فكان هذا خبرا بأمر ديني وقول الواحد فيه ملزم فأما في الوطء الحل والحرمة يثبت حكما للملك وزواله لا يثبت مقصودا بنفسه .

وقول الواحد في إبطال الملك ليس بحجة فكذلك في الحل الذي ينبني عليه والثاني أن في الوطء معنى الإلزام على الغير لأن المنكوحة يلزمها الانقياد للزوج في الاستفراش والمملوكة يلزمها الانقياد لمولاها وخبر الواحد لا يكون حجة في إبطال الاستحقاق الثابت لشخص على شخص فأما حل الطعام والشراب فليس فيه استحقاق حق على أحد يبطل ذلك بثبوت الحرمة وإنما ذلك أمر ديني وخبر الواحد في مثله حجة

التالي السابق


الخدمات العلمية