الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ويقول " الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم يرجع فيمد صوته فيقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله " واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة هذا الأذان "

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف الفقهاء في الأذان على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب الشافعي : أنه تسع عشرة كلمة على ما وصفه بترجيع الشهادتين

                                                                                                                                            والثاني : وهو مذهب مالك : أن الأذان سبع عشرة كلمة بترجيع الشهادتين لكن بإسقاط تكبيرتين من التكبيرات الأربع في أوله

                                                                                                                                            [ ص: 43 ] والثالث : هو مذهب أبي حنيفة أن الأذان خمس عشرة كلمة بإثبات التكبيرات الأربع في أوله وإسقاط ترجيع الشهادتين ، فصار مالك موافقا لنا في الترجيع مخالفا في التكبير ، وصار أبو حنيفة موافقا لنا في التكبير مخالفا في الترجيع

                                                                                                                                            واستدل أبو حنيفة بحديث عبد الله بن زيد وأنه أصل الأذان ، وهو خمس عشرة كلمة فترك الترجيع وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا به فكان يؤذن كذلك في الصلوات كلها بمشهده قال : ولأنه دعاء للصلاة فوجب أن يكون الترجيع غير مسنون فيه كالإقامة . قال : ولأن كلمة الإخلاص إذا تعقبت التكبير وجب أن يكون على الشطر من عدد ذلك التكبير

                                                                                                                                            أصله : آخر الأذان يكبر فيه مرتين ويقول : لا إله إلا الله مرة واحدة ولأن لفظ الأذان إذا كان مسنون التكرار أربعا كان مسنون الموالاة كالتكبيرات الأولى

                                                                                                                                            ودليلنا : رواية الشافعي عن مسلم بن خالد ، عن أبي صالح ، عن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة ، أن عبد الله بن محيريز أخبره وكان يتيما في حجر أبي محذورة حين جهزه إلى الشام قال : قلت لأبي محذورة : أي عم إني خارج إلى الشام وإني أخشى أن أسأل عن تأذينك فأخبرني . قال : نعم ، لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزاة خيبر خرجنا ننظر إليه ، فأذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم فصرخنا نحكيه ونستهزئ به ، فلم يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أخذونا وذهبوا بنا إليه فقال : أيكم سمعت صوته مرتفعا . فأشار القوم كلهم إلي وصدقوا ، فأرسلهم وحبسني وقال : قم فأذن بالصلاة . فقمت وما شيء أكره إلي من النبي صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمر به فقمت بين يديه فألقى علي التأذين هو بنفسه فقال : قل : الله أكبر الله أكبر . إلى أن قال لي : ارجع وامدد من صوتك . ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله . إلى آخر الأذان ، ثم دعا لي وأعطاني صرة فيها شيء من فضة ووضع يده على ناصيتي ، وقال : بارك الله فيك . فقلت : يا رسول الله ، مرني بالتأذين بمكة . فقال : قد أمرتك به . فذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية وعاد ذلك محبة قال الشافعي : " وأدركت إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة يؤذن كما حكى ابن محيريز "

                                                                                                                                            وروى محمد بن سعد عن أبيه سعد القرظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بالترجيع

                                                                                                                                            وروي أن سعد القرظ أذن ورجع وقال : هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن ، ولأنه سنة أهل الحرمين ينقله خلفهم عن سلفهم ، وأصاغرهم عن أكابرهم ، من غير تنازع بينهم ، ولا اختلاف فيه ، فكان ذلك من دلائل الإجماع وحجج الاتفاق ، ولأنه نوع ذكر في الأذان قبل الدعاء إلى الصلاة فوجب أن يكون من السنة تكراره أربعا ، كالتكبير فأما حديث [ ص: 44 ] عبد الله بن زيد وأخذ بلال به من غير ترجيع فقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بالترجيع على أنه لو تعارض الحديثان لكان حديث أبي محذورة أولى من أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه أزيد ، والأخذ بالزيادة أولى

                                                                                                                                            والثاني : أنه متأخر ، والمتأخر أولى

                                                                                                                                            والثالث : أنه مأخوذ من تلقين رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من عبد الله بن زيد فكان هذا أولى

                                                                                                                                            والرابع : أنه يطابق فعل أهل الحرمين بمكة والمدينة فكان أولى

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الإقامة فالمعنى في الأذان أنه لما كان لأجل إعلام الغائبين أكمل هيئة كان أكمل ذكرا ، والإقامة لما كانت لأجل إعلام الحاضرين أنقص هيئة فكانت أنقص ذكرا ، وأما قياسهم بأن كلمة الإخلاص إذا تعقبت كلمة التكبير كانت على الشطر من عدده فيمن يقول بموجبه ، لأن الشهادتين على الشطر من عدد التكبير ، والترجيع إنما هو بعد الانتقال من نوع إلى نوع على أن هذا قياس أول الأذان على آخره ، وهو فاسد ، لأن أول الأذان أكمل من آخره ، وأما قولهم لو تكرر أربعا لكان متواليا

                                                                                                                                            فالجواب عنه أن موالاة الأذان ليست شرطا في الأذان كالتكبير الأول والآخر ، والله أعلم

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية