الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ( 41 ) )

يقول - تعالى ذكره - : ظهرت المعاصي في بر الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه . [ ص: 108 ]

واختلف أهل التأويل في المراد من قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) فقال بعضهم : عنى بالبر ، الفلوات ، وبالبحر : الأمصار والقرى التي على المياه والأنهار .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب قال : ثنا عثام قال : ثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ) الآية ، قال : إذا ولي سعى بالتعدي والظلم ، فيحبس الله القطر ، ف ( يهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) قال : ثم قرأ مجاهد : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) الآية ، قال : ثم قال : أما والله ما هو بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر .

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : أما إني لا أقول بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار .

قال : ثنا يزيد بن هارون ، عن عمرو بن فروخ ، عن حبيب بن الزبير ، عن عكرمة ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : إن العرب تسمي الأمصار بحرا .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) قال : هذا قبل أن يبعث الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، امتلأت ضلالة وظلما ، فلما بعث الله نبيه رجع راجعون من الناس .

قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) أما البر فأهل العمود ، وأما البحر فأهل القرى والريف .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : الذنوب ، وقرأ ( ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عامر قال : ثنا قرة ، عن الحسن في قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) قال : أفسدهم الله بذنوبهم ، في بحر الأرض وبرها بأعمالهم الخبيثة .

وقال آخرون : بل عنى بالبر : ظهر الأرض ، الأمصار وغيرها ، والبحر : البحر المعروف . [ ص: 109 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : في البر : ابن آدم الذي قتل أخاه ، وفي البحر : الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا .

حدثني يعقوب قال : قال أبو بشر - يعني : ابن علية - : قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) قال : بقتل ابن آدم ، والذي كان يأخذ كل سفينة غصبا .

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا يزيد بن هارون ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ( ظهر الفساد في البر والبحر ) قال : قلت : هذا البر ، والبحر أي فساد فيه ؟ قال : فقال : إذا قل المطر ، قل الغوص .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( ظهر الفساد في البر ) قال : قتل ابن آدم أخاه ، ( والبحر ) قال : أخذ الملك السفن غصبا .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن الله - تعالى ذكره - أخبر أن الفساد قد ظهر في البر والبحر عند العرب في الأرض القفار ، والبحر بحران : بحر ملح ، وبحر عذب ، فهما جميعا عندهم بحر ، ولم يخصص جل ثناؤه الخبر عن ظهور ذلك في بحر دون بحر ، فذلك على ما وقع عليه اسم بحر عذبا كان أو ملحا . إذا كان ذلك كذلك ، دخل القرى التي على الأنهار والبحار .

فتأويل الكلام إذن إذ كان الأمر كما وصفت ، ظهرت معاصي الله في كل مكان من بر وبحر ( بما كسبت أيدي الناس ) : أي بذنوب الناس ، وانتشر الظلم فيهما .

وقوله : ( ليذيقهم بعض الذي عملوا ) يقول جل ثناؤه : ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا ، ومعصيتهم التي عصوا ( لعلهم يرجعون ) يقول : كي ينيبوا إلى الحق ، ويرجعوا إلى التوبة ، ويتركوا معاصي الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 110 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن ( لعلهم يرجعون ) قال : يتوبون .

قال : ثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ( لعلهم يرجعون ) يوم بدر لعلهم يتوبون .

قال : ثنا أبو أسامة ، عن زائدة ، عن منصور ، عن إبراهيم ( لعلهم يرجعون ) قال : إلى الحق .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) : لعل راجعا أن يرجع ، لعل تائبا أن يتوب ، لعل مستعتبا أن يستعتب .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو عامر قال : ثنا قرة ، عن الحسن ( لعلهم يرجعون ) قال : يرجع من بعدهم .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( ليذيقهم ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( ليذيقهم ) بالياء ، بمعنى : ليذيقهم الله بعض الذي عملوا ، وذكر أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ ذلك بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه بذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية