الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1965 - وعن سلمان الفارسي قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر يوم من شعبان فقال : " يا أيها الناس ، قد أظلكم شهر عظيم ، شهر مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليله تطوعا ، من تقرب

فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة ، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن ، من فطر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء " ، قلنا : يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن ، أو تمرة ، أو شربة من ماء ، ومن أشبع صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة ، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ، ومن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له ، وأعتقه من النار
" .

التالي السابق


1965 - ( عن سلمان الفارسي ) بكسر الراء ( قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وهو يحتمل خطبة الجمعة وخطبة الموعظة ( في آخر يوم من شعبان فقال ) أي بعد أن حمد الله وأثنى عليه كما هو المعهود من حاله في خطبه ، وكأن سلمان حذف ذلك اختصارا ، قلت : ما اختصره بل اقتصره وبينه وأظهره بقوله خطبنا ، فإن الخطبة هي الحمد والثناء كما هو مشهور عند العلماء والفقهاء " أيها " وفى نسخة : يا أيها " الناس قد أظلكم " بالظاء المشالة أي أشرف عليكم وقرب منكم " شهر عظيم " أي قدره لأنه سيد الشهور كما في حديث ، وقال الطيبي : أي شارفكم وألقى ظله عليكم ، ونقل عن محيي السنة أنه بالطاء المهملة ، ففي النهاية أطل علينا بالمهملة أشرف ، وأظلكم رمضان بالمعجمة أي أقبل عليكم ودنا منكم كأنه ألقى عليكم ظله اهـ وعبارته أحسن من عبارة الطيبي كما لا يخفى " شهر مبارك " أي على من يعرف قدره " شهر فيه ليلة " أي عظيمة ، وفى أصل ابن حجر ليلة القدر وهو سهو " خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه " أي صيام نهاره ( فريضة ) أي فرضا قطعيا ( وقيام ليله ) أي إحياءه بالتراويح ونحوها ( تطوعا ) أي سنة مؤكدة ، فمن فعله فاز بعظيم ثوابه ومن تركه حرم الخير وعوقب بعتابه " من تقرب " أي إلى الله [ ص: 1368 ] " فيه " أي في نهاره أو ليله " بخصلة من الخير " أي من أنواع النفل " كان كمن " أي ثوابه كثواب من " أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فريضة فيه " بدنية أو مالية " كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ) أي من الأشهر ، وهذا فيما سوى الحرم ، إذ حسناته عن مائة ألف في غيره " وهو شهر الصبر " لأن صيامه بالصبر عن المأكول والمشروب ونحوها ، وقيامه بالصبر على محنة السهر وسنة السحور عند السحر ، ولذا أطلق الصبر على الصوم في قوله - تعالى - واستعينوا بالصبر والصلاة وفيه إشارة لطيفة بأن باقي الأشهر شهور الشكر فيكون إيماء إلى قوله - تعالى - أياما معدودات أي زمانا قليلا تسهيلا للصائمين وتسلية للقائمين " والصبر " أي كماله المتضمن للشكر ، كما حرره الغزالي من أن وجودهما على وجه الكمال متلازمان ، وفى التحقيق متعانقان وبكل طاعة وخصلة حميدة متعلقان ، فإن الإيمان نصفان : نصفه صبر ونصفه شكر ، فترك المعصية صبر ، وامتثال الطاعة شكر " ثوابه الجنة " أو يقال : الصبر على الطاعة وعن المعصية جزاؤه الجنة لمن قام به مع الناجين ، وأما قول ابن حجر : أي من غير مقاساة لشدائد الموقف فأمر راشد غير مفهوم من الحديث فلا ينبغي الجراءة عليه " وشهر المواساة " أي المساهمة والمشاركة في المعاش والرزق ، وأصله الهمزة فقلبت واوا تخفيفا ، قاله الطيبي ، وفيه تنبيه على الجود والإحسان على جميع أفراد الإنسان ، لا سيما على الفقراء والجيران " وشهر يزاد في رزق المؤمن " وفي نسخة صحيحة : " يزاد فيه رزق المؤمن سواء كان غنيا أو فقيرا " ، وهذا أمر مشاهد فيه ويحتمل تعميم الرزق بالحسي والمعنوي ، وفي الحديث تشجيع على الكرم وتحضيض على ما ذكر قبله وبعده " من فطر " بتشديد الطاء " فيه صائما " أي أطعمه أو سقاه عند إفطاره من كسب حلال كما في الرواية الآتية " كان " أي التفطير " له " أي للمفطر " مغفرة لذنوبه وعتق رقبته " أي المفطر " من النار " أي سببا لحصولهما ، وفى نسخة برفع المغفرة والعتق ، فالمعنى : حصل له مغفرة وعتق " وكان له " أي وحصل للمفطر " مثل أجره " أي مثل ثواب الصائم " من غير أن ينتقص " من باب الافتعال " من أجره " أي من أجر الصائم " شيء " وهو زيادة إيضاح وإفادة تأكيد للعلم بعدم النقص من لفظ " مثل أجره " أولا ، [ ص: 1369 ] " قلنا : يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم " بالتكلم بالفعلين ، وفى نسخة بالغيبة فيهما أي لا يجد كلنا ما يشبعه وإنما الذي يجد ذلك بعضنا فما حكم من لا يجد ذلك ؟ ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطي الله هذا الثواب " ) أي من جنس هذا الثواب أو هذا الثواب كاملا عند العجز عن الإشباع " من فطر صائما على مذقة لبن " بفتح الميم وسكون الذال المعجمة أي شربة لبن يخلط بالماء " أو تمرة " وفي تقديم المذقة إشارة إلى أنها أفضل من التمرة إما لفضيلة اللبن أو للجمع بين النعمتين " أو شربة من ماء " وأو للتنويع في الموضعين ، وأما قول ابن حجر : وكلكم يقدر على واحدة من هذه الثلاثة فغير صحيح بإطلاقه " ومن أشبع صائما سقاه الله " ولعل الاكتفاء بالإشباع في الشرط لأنه أفضل أو لكونه أصلا في الدنيا ، وبالإسقاء في الجزاء لكون الاحتياج إليه أكثر ، بل لا احتياج إلا إليه في العقبى " من حوضي " أي الكوثر في القيامة " شربة لا يظمأ " أي بعدها " حتى يدخل الجنة " أي إلى أن يدخلها ، ومن المعلوم أن لا ظمأ في الجنة لقوله - تعالى - وأنك لا تظمأ فيها فكأنه قال : لا يظمأ أبدا " وهو " أي رمضان " شهر أوله رحمة " أي وقت رحمة نازلة من عند الله عامة ، ولولا حصول رحمته ما صام ولا قام أحد من خليقته ، لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " وأوسطه مغفرة " أي زمان مغفرته المترتبة على رحمته ، فإن الأجير قد يتعجل بعض أجره قرب فراغه منه " وآخره " وهو وقت الأجر الكامل " عتق " أي لرقابهم " من النار " والكل بفضل الجبار وتوفيق الغفار للمؤمنين الأبرار للأعمال الموجبة للرحمة والمغفرة والعتق من النار " ومن خفف " أي في الخدمة " عن مملوكه فيه " أي في رمضان رحمة عليه وإعانة له بتيسير الصيام إليه " غفر الله له " أي لما فعله قبل ذلك من الأوزار " وأعتقه من النار " جزاء لإعتاقه المملوك من شدة العمل ، قال ميرك : ورواه ابن خزيمة في صحيحه ، وقال : إن صح الخبر ، ورواه من طريقه البيهقي ، ورواه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب باقتصار عنهما ، وفي رواية لأبي الشيخ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من فطر صائما في شهر رمضان من كسب حلال صلت عليه الملائكة ليالي رمضان كلها ، وصافحه جبريل ليلة القدر ، ومن صافحه جبريل - عليه السلام - يرق قلبه وتكثر دموعه " ، قال : فقلت : يا رسول الله من لم يكن عنده ؟ قال : " فقبضة من طعام " ، قلت : أفرأيت إن لم يكن عنده لقمة خبز ؟ قال : " فمذقة لبن " ، قلت : أفرأيت إن لم يكن عنده ؟ قال : " فشربة من ماء " ، قال المنذري : وفي أسانيدهم علي بن زيد بن جدعان ، ورواه ابن خزيمة والبيهقي أيضا باختصار عنه من حديث أبي هريرة وفي إسناده كثير بن زيد .

[ ص: 1370 ]



الخدمات العلمية