الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 190 ] ابن الباقلاني

                                                                                      الإمام العلامة ، أوحد المتكلمين ، مقدم الأصوليين ، القاضي أبو بكر ، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم ، البصري ، ثم البغدادي ، ابن الباقلاني ، صاحب التصانيف ، وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه .

                                                                                      سمع أبا بكر أحمد بن جعفر القطيعي ، وأبا محمد بن ماسي ، وطائفة .

                                                                                      وخرج له أبو الفتح بن أبي الفوارس .

                                                                                      وكان ثقة إماما بارعا ، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة ، والخوارج والجهمية والكرامية ، وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري ، وقد يخالفه في مضائق ، فإنه من نظرائه ، وقد أخذ علم النظر عن أصحابه .

                                                                                      وقد ذكره القاضي عياض في " طبقات المالكية " فقال : هو الملقب بسيف السنة ، ولسان الأمة ، المتكلم على لسان أهل الحديث ، [ ص: 191 ] وطريق أبي الحسن ، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته ، وكان له بجامع البصرة حلقة عظيمة .

                                                                                      حدث عنه : الحافظ أبو ذر الهروي ، وأبو جعفر محمد بن أحمد السمناني ، وقاضي الموصل ، والحسين بن حاتم الأصولي .

                                                                                      قال أبو بكر الخطيب كان ورده في كل ليلة عشرين ترويحة في الحضر والسفر ، فإذا فرغ منها ، كتب خمسا وثلاثين ورقة من تصنيفه . سمعت أبا الفرج محمد بن عمران يقول ذلك . وسمعت علي بن محمد الحربي يقول : جميع ما كان يذكر أبو بكر بن الباقلاني من الخلاف بين الناس صنفه من حفظه ، وما صنف أحد خلافا إلا احتاج أن يطالع كتب المخالفين ، سوى ابن الباقلاني .

                                                                                      قلت : أخذ القاضي أبو بكر المعقول عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن مجاهد الطائي صاحب أبي الحسن الأشعري .

                                                                                      وقد سار القاضي رسولا عن أمير المؤمنين إلى طاغية الروم ، وجرت له أمور ، منها أن الملك أدخله عليه من باب خوخة ليدخل راكعا للملك ، ففطن لها القاضي ، ودخل بظهره .

                                                                                      ومنها أنه قال لراهبهم : كيف الأهل والأولاد ؟ فقال الملك : مه ! أما علمت أن الراهب يتنزه عن هذا ؟ فقال : تنزهونه عن هذا ، ولا تنزهون رب [ ص: 192 ] العالمين عن الصاحبة والولد !

                                                                                      وقيل : إن الطاغية سأله : كيف جرى لزوجة نبيكم ؟ -يقصد توبيخا- فقال : كما جرى لمريم بنت عمران ، وبرأهما الله ، لكن عائشة لم تأت بولد . فأفحمه .

                                                                                      قال الخطيب سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول : كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس سوى القاضي أبي بكر ، فإنما صدره يحوي علمه وعلم الناس .

                                                                                      وقال أبو محمد البافي : لو أوصى رجل بثلث ماله لأفصح الناس لوجب أن يدفع إلى أبي بكر الأشعري .

                                                                                      قال أبو حاتم محمود بن الحسين القزويني : كان ما يضمره القاضي أبو بكر الأشعري من الورع والدين أضعاف ما كان يظهره ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنما أظهر ما أظهره غيظا لليهود والنصارى ، والمعتزلة والرافضة ، لئلا يستحقروا علماء الحق .

                                                                                      وعمل بعضهم في موت القاضي :

                                                                                      انظر إلى جبل تمشي الرجال به وانظر إلى القبر ما يحوي من الصلف     وانظر إلى صارم الإسلام منغمدا
                                                                                      وانظر إلى درة الإسلام في الصدف

                                                                                      [ ص: 193 ]

                                                                                      مات في ذي القعدة ، سنة ثلاث وأربعمائة ، وصلى عليه ابنه حسن ، وكانت جنازته مشهودة ، وكان سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة ، وغالب قواعده على السنة ، وقد أمر شيخ الحنابلة أبو الفضل التميمي مناديا يقول بين يدي جنازته : هذا ناصر السنة والدين ، والذاب عن الشريعة ، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة . ثم كان يزور قبره كل جمعة .

                                                                                      قيل : ناظر أبو بكر أبا سعيد الهاروني ، فأسهب ، ووسع العبارة ، ثم قال للجماعة : إن أعاد ما قلت ، قنعت به عن الجواب . فقال الهاروني : بل إن أعاد ما قاله ، سلمت له .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية