الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن باع بثمن حال ثم أجله أجلا معلوما صار مؤجلا ) ; لأن الثمن حقه فله أن يؤخره تيسيرا على من عليه [ ص: 523 ] ألا ترى أنه يملك إبراءه مطلقا فكذا مؤقتا ، ولو أجله إلى أجل مجهول إن كانت الجهالة متفاحشة كهبوب الريح لا يجوز ، وإن كانت متقاربة كالحصاد والدياس يجوز ; لأنه بمنزلة الكفالة وقد ذكرناه من قبل .

قال ( وكل دين حال إذا أجله صاحبه صار مؤجلا ) ; لما ذكرنا ( إلا القرض ) فإن تأجيله لا يصح ; لأنه إعارة وصلة في الابتداء حتى يصح بلفظة الإعارة ، ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي ومعاوضة في الانتهاء ، فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كما في الإعارة ، إذ لا جبر في التبرع [ ص: 524 ] وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح ; لأنه يصير بيع الدراهم بالدراهم نسيئة وهو ربا ، وهذا بخلاف ما إذا أوصى أن يقرض من ماله ألف درهم فلانا إلى سنة حيث يلزم الورثة من ثلثه أن يقرضوه ولا يطالبوه قبل المدة ; لأنه وصية بالتبرع بمنزلة الوصية بالخدمة والسكنى فيلزم حقا للموصي ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


( قوله ومن باع بثمن حال ثم أجله أجلا معلوما صار مؤجلا ) وهو قول مالك خلافا للشافعي ، وكذا قوله في كل دين حال لا يصير مؤجلا بالتأجيل وهو قول زفر ; لأنه بعد أن كان حالا ليس إلا وعدا بالتأخير ، قلنا ( الثمن حقه فله أن يؤخره تيسيرا على من عليه ) وهذا لا يستلزم الدعوى وهو لزوم الأجل بالتأجيل فإنه يقول : لا شك أن له أن يؤخر إنما [ ص: 523 ] الكلام في أنه يلزم التأخير شرعا إذا أخر ، وقوله ( ألا ترى ) إلى آخره يستدل به مستقلا في المطلوب وهو أن الشرع أثبت عند إسقاطه السقوط والتأجيل التزام الإسقاط إلى وقت معين فيثبت شرعا السقوط إلى ذلك الوقت كما ثبت شرعا سقوطه مطلقا بإسقاطه مطلقا ( ولو أجله إلى أجل مجهول إن كانت الجهالة متفاحشة كهبوب الريح ) ومجيء المطر ( لا يجوز ) ولا يجوز التأجيل به ابتداء ( وإن كانت ) يسيرة ( كالحصاد والدياس يجوز ) ويلزم كما إذا كفل إليها ( وقد ذكرناه من قبل ) يعني في آخر باب البيع الفاسد لأن الأجل المجهول لم يشترط في عقد البيع ليفسد به بل فيما هو دين ( وكل دين إذا أجله صاحبه صار مؤجلا لما ذكرنا ، إلا القرض فإن تأجيله لا يصح ) ولو شرط الأجل في ابتداء القرض صح القرض وبطل الأجل ، وعند مالك يصح أيضا ; لأن القرض صار في ذمته كسائر الديون ، ولو مات المقرض فأجل ورثته صرح قاضي خان بأنه لا يصح كما لو أجل المقرض ، وقول صاحب المبسوط ينبغي أن يصح على قول البعض لا يعارضه ولا يفيد ما يعتمد عليه ، ولا فرق بين أن يؤجل بعد استهلاك القرض أو قبله وهو الصحيح ، وليس من تأجيل القرض تأجيل بدل الدراهم والدنانير المستهلكة إذ باستهلاكها لا تصير قرضا ، والحيلة في لزوم تأجيل القرض أن يحيل المستقرض المقرض على آخر بدينه فيؤجل المقرض ذلك الرجل المحال عليه فيلزم حينئذ .

وجه المسألة أن القرض تبرع ( لأنه صلة في الابتداء وإعارة حتى يصح ) القرض ( بلفظ أعرتك ) هذه الألف بدل أقرضتك ونحوه ( و ) لهذا ( لا يملكه من لا يملك الصلات والتبرعات كالوصي والصبي ) والعبد والمكاتب ( ومعاوضة في الانتهاء ) ; لأنه أعطاه ليأخذ بدله بعد ذلك ولهذا يلزم رد مثله بعد ذلك وأخذ مثله ( فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل ، كما ) لا يلزم تأجيل ( الإعارة ) فإنه لو أعاره المتاع إلى شهر كان له أن يسترده [ ص: 524 ] في الحال إذ لا تأجيل في التبرع ( وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح ) أيضا ( لأنه يصير ) بهذه المعاوضة ( بيع دراهم بمثلها نسيئة وهو ربا ) ; ولأنه لو لزم كان التبرع ملزما على المتبرع شيئا كالكف عن المطالبة فيما نحن فيه وهو ينافي موضوع التبرعات ، قال تعالى { ما على المحسنين من سبيل } نفى السبيل عنهم على وجه نصوصية الاستغراق ، فلو لزم تحقق سبيل عليه ثم للمثل المردود حكم العين كأنه رد العين ، ولولا هذا الاعتبار كان تمليك دراهم بدراهم بلا قبض في المجلس فلزم اعتبارها شرعا كالعين ، وإذا جعلت كالعين فالتأجيل في الأعيان لا يصح ( بخلاف ما إذا أوصى أن يقرض من ماله ألفا لفلان إلى سنة حيث يلزم ) ذلك ( من ثلثه ; لأنه وصية بالتبرع ) فيلزم كما تلزم الوصية بخدمة عبده وسكنى داره سنة مع أنه لو أعار عبده أو داره سنة كان له أن يسترده في الحال ، وهذا ; لأن باب الوصية أوسع من سائر التصرفات ; ألا ترى أنه لو أوصى بثمرة بستانه جاز ، وإن كانت الثمرة معدومة في الحال رعاية لحق الموصي ونظرا له فضلا من الله ورحمة ، وللرحمة عليه أجازها الشرع وكان القياس أن لا تصح ; لأنها تمليك مضاف إلى حال زوال ملكيته ، والله تعالى أعلم ،




الخدمات العلمية