الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا عدم الوصفان الجنس والمعنى المضموم إليه حل التفاضل والنساء ) لعدم العلة المحرمة والأصل فيه الإباحة .

وإذا وجدا .

[ ص: 11 ] حرم التفاضل والنساء لوجود العلة .

وإذا وجد أحدهما وعدم الآخر حل التفاضل وحرم النساء مثل أن يسلم هرويا في هروي أو حنطة في شعير ، فحرمة ربا الفضل بالوصفين وحرمة النساء بأحدهما .

وقال الشافعي : الجنس بانفراده لا يحرم النساء لأن بالنقدية وعدمها لا يثبت إلا شبهة الفضل ، وحقيقة الفضل غير مانع فيه حتى يجوز بيع الواحد بالاثنين فالشبهة أولى .

[ ص: 12 ] ولنا أنه مال الربا من وجه نظرا إلى القدر أو الجنس والنقدية أوجبت فضلا في المالية فتتحقق شبهة الربا وهي مانعة كالحقيقة ، إلا أنه إذا أسلم النقود في الزعفران ونحوه يجوز ، وإن جمعهما الوزن لأنهما لا يتفقان [ ص: 13 ] في صفة الوزن ، فإن الزعفران يوزن بالأمناء وهو مثمن يتعين بالتعيين ، والنقود توزن بالسنجات وهو ثمن لا يتعين بالتعيين .

ولو باع بالنقود موازنة وقبضها صح التصرف فيها قبل الوزن ، وفي الزعفران وأشباهه لا يجوز ، فإذا اختلفا فيه صورة ومعنى وحكما لم يجمعهما القدر من كل وجه فتنزل الشبهة فيه إلى شبهة الشبهة وهي غير معتبرة .

التالي السابق


( قوله وإذا عدم الوصفان الجنس والمعنى المضموم إليه ) وهو القدر ( حل التفاضل والنساء ) كبيع الحنطة بالدراهم أو الثوب الهروي بمرويين إلى أجل والجوز بالبيض إلى أجل ( لعدم العلة المحرمة ) وعدم العلة وإن كان لا يوجب عدم الحكم ، لكن إذا اتحدت العلة لزم من عدمها العدم لا بمعنى أنها تؤثر العدم بل لا يثبت الوجود لعدم علة الوجود فيبقى عدم الحكم وهو الحرمة فيما نحن فيه على عدمه الأصلي ، وإذا عدم سبب الحرمة ( والأصل في البيع ) مطلقا ( الإباحة ) إلا ما أخرجه دليل من أصنافه كان الثابت الحل ( وإذا وجدا ) أي الجنس والمعنى المضموم إليه [ ص: 11 ] وهو القدر ( حرم التفاضل والنساء ) كالشعير بالشعير لا يجوز إلا مع التساوي والتقابض ( لوجود العلة ) المعرفة للحكم على ما بينا ( وإذا وجد أحدهما وعدم الآخر حل التفاضل وحرم النساء مثل أن يسلم ) ثوبا ( هرويا في ثوب هروي ) في صورة اتحاد الجنس مع عدم المضموم إليه من الكيل أو الوزن لا يجوز ، وكذا إذا باع عبدا بعبد إلى أجل لوجود الجنسية ، ولو باع العبد بعبدين أو الهروي بهرويين حاضرا جاز ( أو حنطة في شعير ) في صورة اختلاف الجنس مع اتحاد المضموم وهو المسوى ، وكذا حديد في رصاص ومقتضاه أن لا يجوز فلوس في خبز ونحوه في زماننا لأنها وزنية ( فحرمة ربا الفضل بالوصفين ) جميعا ( وحرمة النساء بأحدهما ) والنساء بالمد ليس غير ( وقال الشافعي رحمه الله : الجنس بانفراده لا يحرم نساء ) لأنه دليل عليه .

وأيضا دل الدليل على نفيه وهو ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما " أنه صلى الله عليه وسلم جهز جيشا فأمرني أن أشتري بعيرا ببعيرين إلى أجل " وهذا يكون سلما . وعن ابن عمر " أنه باع بعيرا بأربعة إلى أجل .

وعن علي رضي الله عنه أنه باع بعيرا يقال له عصفور بعشرين بعيرا إلى أجل " . والمعنى أن التأجيل في أحد البدلين يظهر التفاوت فيه حكما ، والتفاوت حقيقة أكثر تأثيرا منه حكما ، فإذا كان التفاوت حقيقة في هذه الأموال بأن باع الواحد بالاثنين لا يؤثر في منع الجواز بالاتفاق [ ص: 12 ] حتى جاز هذا البيع إذا كان حالا اتفاقا فالتفاوت حكما أولى ، وهذا معنى قول المصنف لأن بالنقدية إلى آخره ( ولنا أنه مال الربا نظرا إلى القدر أو الجنس و ) عرف أن ( النقدية أوجبت فضلا في المالية ) حتى تعورف البيع بالحال بأنقص منه بالمؤجل ( فتتحقق ) بوجوده ( شبهة ) علة ( الربا ) فتثبت شبهة الربا ( وشبهة الربا مانعة كحقيقة الربا ) بالإجماع على منع بيع الأموال الربوية مجازفة وإن ظن التساوي وتماثلت الصبرتان في الرؤية وليس فيه إلا شبهة ثبوت الفضل ، بل قالوا : لو تبايعا مجازفة ثم كيل بعد ذلك فظهرا متساويين لم يجز عندنا أيضا خلافا لزفر ، لأن العلم بالمساواة عند العقد شرط الجواز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الربا والريبة ، وكذا الاتفاق على أنه لا يجوز بيع الحنطة بالشعير نسيئة يؤيد ما ذكرنا والتحقيق أن المعول عليه في ذلك ما تقدم من حديث عبادة بن الصامت مما أخرجه الستة إلا البخاري من قوله في آخر الحديث { فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد } فألزم التقابض عند الاختلاف وهو تحريم النسيئة ، وكذا ما تقدم من رواية أبي داود لقوله صلى الله عليه وسلم { ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد . وأما النسيئة فلا } ، وأخرج أبو داود أيضا قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة } فقام دليلا على أن وجود أحد جزأي علة الربا علة لتحريم النساء ثم عللنا [ ص: 13 ] بأن فيه شبهة الربا : أعني الفضل .

وإنما قلنا هذا لأن مقتضى ما ذكر من أن للشبهة حكم الحقيقة أن يحرم بأحد الوصفين التفاضل أيضا ، لأن لشبهة العلة حكم العلة فيثبت به شبهة حكم العلة وحكم العلة هو حرمة التفاضل والنساء فيثبت فيهما ، ثم يقدم هذا الحديث على حديث البعير ببعيرين لأنه محرم وذلك مبيح ، أو يجمع بينهما بأن ذلك كان قبل تحريم الربا . ولما كان مقتضى ما ذكر أن لا يجوز إسلام النقود من الدراهم والدنانير في الزعفران وفي سائر الموزونات كالقطن والحديد والنحاس وهو جائز بالإجماع .

أجاب بالفرق بأن الوزن في النقود وفي تلك الأموال مختلف ، فإنه في النقود بالمثاقيل والدراهم الصنجات ، وفي الزعفران بالأمناء والقبان ، وهذا اختلاف في الصورة بينهما ، وبينهما اختلاف آخر معنوي وهو أن النقود لا تتعين بالتعيين والزعفران وغيره يتعين ، وآخر حكمي ، وهو أنه لو باع النقود موازنة وقبضها كان له أن يبيعها قبل الوزن ، وتفسيره لو اشترى دراهم أو دنانير موازنة فوزنها البائع بغيبة المشتري وسلمها فقبضها جاز له أن يتصرف فيها قبل وزنها ثانيا ، وفي الزعفران ونحوه يشترط إعادة الوزن في مثله ( فإذا اختلفا ) أي النقد والزعفران ونحوه ( فيه ) أي في الوزن ( صورة ومعنى وحكما لم يجمعهما القدر من كل وجه فتنزل الشبهة فيه إلى شبهة الشبهة وهي غير معتبرة ) وقوله صورة ومعنى وحكما نشر [ ص: 14 ] مرتب بعد اللف ، ولا يخفى أن التعيين بالتعيين وعدمه لا يتعلق بالوزن ، وليس الاختلاف باعتباره اختلافا في معنى الوزن ، وكذا الأول فإن الزعفران والمسك والزباد يوزن بالصنجات أيضا ، وكذا الأخير ، بل لا فرق بين النقد وغيره في ذلك .

وقوله وفي الزعفران وأشباهه لا يجوز إن أراد أنه بعدما اتزنه من بائعه وقبضه ليس له أن يبيعه حتى يعيد الوزن ممنوع ، بل له أن يبيعه موازنة من آخر ثم يلزم بعد هذا البيع أن يزنه الآخر ليسلمه إليه ليصح تصرف الآخر فيه ، وكذا نقول في الدراهم إذا قبضها ، وأما أن يقال إذا بالدراهم حتى كانت ثمنا أو باعها له أن يتصرف فيها قبل قبضها ، بخلاف الزعفران لأنه مبيع وذلك ثمن ويجوز التصرف في الثمن قبل قبضه ، بخلاف المبيع ، وعلى تقدير هذا الاختلاف الحكمي وحده لا يوجب اعتباره غير مشارك له في أصل الوزن .

وإذا ضعف هذا فالوجه في هذا أن يضاف تحريم الجنس بانفراده إلى السمع كما ذكرنا ، ويلحق به تأثير الكيل الوزن بانفراده ثم يستثنى إسلام النقود في الموزونات بالإجماع كي لا يفسد أكثر أبواب السلم وسائر الموزونات خلاف النقد لا يجوز أن تسلم في الموزونات وإن اختلفت أجناسها كإسلام حديد في قطن أو زيت في جبن وغير ذلك ، إلا إذا خرج من أن يكون وزنيا بالصنعة إلا في الذهب والفضة ; فلو أسلم سيفا فيما يوزن جاز إلا في الحديد لأن السيف خرج من أن يكون موزونا ومنعه في الحديد لاتحاد الجنس ، وكذا يجوز بيع إناء من غير النقدين بمثله من جنسه يدا بيد نحاسا كان أو حديدا وإن كان أحدهما أثقل من الآخر ، بخلافه من الذهب والفضة فإنه يجري فيه ربا الفضل وإن كانت لا تباع وزنا لأن صورة الوزن منصوص عليها فيهما فلا يتغير بالصنعة فلا يجوز أن يخرج عن الوزن بالعادة .

وأورد أنه ينبغي أن يجوز حينئذ إسلام الحنطة والشعير في الدراهم والدنانير لاختلاف طريقة الوزن . أجيب بأن امتناعه لامتناع كون النقد مسلما فيه لأن المسلم فيه مبيع وهما متعينان للثمنية ، وهل يجوز بيعا ؟ قيل : إن كان بلفظ البيع يجوز بيعا بثمن مؤجل ، وإن كان بلفظ المسلم فقد قيل لا يجوز .

وقال الطحاوي : ينبغي أن ينعقد بيعا بثمن مؤجل ، هذا واختلاف الجنس يعرف باختلاف الاسم الخاص واختلاف المقصود ; فالحنطة والشعير جنسان عندنا وعند الشافعي . وقال مالك : جنس واحد حتى لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا لأن اسم الطعام يقع عليهما .

قلنا : بل جنسان لأنهما مختلفان اسما ومعنى ، وإفراد كل عن الآخر في قوله صلى الله عليه وسلم { الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير } يدل على أنهما جنسان ، وإلا قال الطعام بالطعام ، وكون اسم الأعم يصح إطلاقه على الأخص لا يوجب أن جميع ما يصدق عليه يكون متماثلا كالحيوان يطلق على أمور متباينة بلا شك كالإنسان والفرس ، ولم يلزم من ذلك أن يكون جنسا واحدا بالمعنى الفقهي ، والثوب الهروي والمروي وهو بسكون الراء جنسان لاختلاف الصنعة وقوام الثوب بها ، وكذا المروي المنسوج ببغداد وخراسان واللد الأرمني والطالقاني جنسان ، والتمر كله جنس واحد ، والحديد والرصاص والشبه أجناس ، وكذا غزل الصوف والشعر ولحم البقر والضأن والمعز والألية واللحم وشحم البطن أجناس ، ودهن البنفسج والخيري جنسان ، والأدهان المختلفة أصولها أجناس ، ولا يجوز بيع رطل زيت غير مطبوخ برطل مطبوخ مطيب لأن الطيب زيادة




الخدمات العلمية